إن المؤرخين الذين كتبوا عن هذه الأديرة على تعدد جنسياتهم وعصورهم لم يتفقوا على عددها بل اختلفوا في ذلك اختلافا بينا. وهذا أمر يدرك بسهولة للمطلع على أقوالهم. غير أننا نرى أن هذا الاختلاف لا يرجع إلى حقيقة عدد هذه المنشأت نفسها وانما سببه في الواقع راجع إلى اختلاف حقيقة ما كان يطلق عليه اسم الدير في العصور المختلفة.
فما كان يطلق عليه في العصور الأولى اسم دير لم يكن كالأبنية التي في وادي النطرون في عصرنا المسماة بهذا الاسم التي هي حصون منيعة لايمكن اقتحامها إلا بقوة المدافع، بل كانت بيوتا منحوتة في الجبال أو مصنوعة من القصب أو فروع الشجر أو جريد النخل. وكان في تلك العصور يطلق على كل مجموعة من هذه البيوت كبيرة أو صغيرة اسم الدير. وكان يتألف من سكان كل مجموعة طائفة خاصة من الرهبان لها رئيسها وكنيستها ومستودع مؤونتها ومثوى النازلين بينهم من الغرباء.
وهذه الحالة كانت نتيجة استتباب الأمن في هذه الربوع. ثم عندما أخذت حبال هذا الأمن تنصرم فيما بعد بظهور قبائل البربر شرع رهبان كل مجموعة في تشييد برج لهم ليحتموا فيه اذا أغار عليهم هؤلاء البربر. ويظهر أن هذه البروج كانت فاتحة القيام بأبنية انتهت في أطوارها إلى الأديرة الحالية بالكيفية التي نراها عليها الآن التي لا يخلو واحد منها من أن يكون بداخله برج عاصم يلتجئ اليه الرهبان اذا اقتحم البربر الدير نفسه
ولقد ضرب لنا كاترمير مثلا فيما رواه بالمجلد الأول من كتابه ص 477 قال:
بعدما خمدت نيران الاضطراب التي أشعلها البربر أصلح سانوتيوس (شنوده) البطريرك الخامس والخمسون (سنة 859-881م) دير القديس مقار وأحاطه بسور منيع ليقيم فيه الرهبان والنصارى آمنين غارتهم. ا.ه.
فتلك هي الأسباب التي دعت إلى اقامة الأديرة على الطراز الذي نراها عليه اليوم
وقال كيرزون في كتابه (زيارات أديرة الشرق ص 79) إن أول من ذكر معلومات عن الاديرة في عهدها الاول هو روفان “Rufin”
الذي زار صحراء شيهات عام 372م وذكر أن عددها كان خمسين ديرا. وأضاف كيرزون إلى ذلك أن بالاديوس الذي زار أيضا هذه الصحراء عام 387م قدر عدد الرهبان فيها بخمسة آلاف راهب. فيكون متوسط عدد الرهبان في الدير الواحد مائة راهب.
ويبدو لنا أن عدد الأديرة لم يجاوز الخمسين مطلقا وهو العدد الذي قدره روفان.
هذا، ومن ناحية أخرى فان الرهبنة كما سبق القول عند الكلام على سيرة القديس أرسانيوس المتوفي عام 445م وإن كانت قد بلغت في عهد هذا القديس ذروة مجدها، إلا أن عدد الرهبان أخذ يتضاءل من بعده إلى أن بلغ في منتصف القرن السادس الميلادي نحو 3500 راهب. فمن الصعوبة اذا تصديق زيادة عدد هذه الاديرة مع تناقص عد الرهبان، لا سيما أن الأميال كانت متجهة أكثر إلى الاجتماع والاحتشاد في الأديرة كما هو الحال الآن ابتغاء توافر الأمن وزيادته عوضا عن التشتت والتفرق.
صفحة غير معروفة