الفصل الثاني عشر
جنية البحر
ودام السكوت نحو عشر دقائق كأن السجين الأول لم يعد يستطيع الكلام لشدة تأثره. وأما السجين الثاني الذي لا يطيق الصبر على قصة مبتورة فقال: ما فهمنا كيف انتهت المسألة؟
فتنهد الأول وقال: لا تسل كيف انتهت المسألة، بل كيف ابتدأت؟ جئت أستشفي من حب فوقعت في حب آخر. بل قل: جئت أموت في الحب فولدت ثانية. كأن الحب لا يعتقني من عبوديتي له.
فاعتدل الثاني في مكانه وقال: إن حكايتك لذيذة جدا يا صاحبي. فهات أخبرني ما هو الحب الآخر؟ يظهر أنك موجود في جو مشبع بالحب. - نعم. لقد أصبحت أعتقد أن الأرواح تتقمص مرتقية. فقد انتقلت من عالم حب عادي إلى عالم حب أرقى. فاسمع الحكاية الثانية وادهش واستغرب. - هات. لقد كدت أستلذ السجن معك يا صاحبي. ليتهم يبقوننا معا في سجن واحد. هات قل لي يا أمير العشاق!
فاعتدل الأول وقال: بعد ذلك الخطاب الأخير انتظرت منها كلمة عطف فلم ترد على خطابي. فعدت إلى الملعب وحاولت أن أسترق نظرة منها لي فما استطعت. انتظرت خارج الملعب عسى أن تشير إشارة عطف فخاب المؤمل أيضا. ومضت في أوتوموبيلها مع رجل عظيم فذبت وجدا وعدت إلى منزلي في منتهى اليأس وشعرت أن منزلي لا يسعني. بل شعرت أن العالم كله ضاق بي. خرجت من المنزل الساعة الثانية بعد نصف الليل وأنا أتخيلها إلى جنب ذلك العظيم في الأتوموبيل، فخيل لي أن السماء أطبقت على الأرض.
تمشيت على غير هدى كمن يهرب من لهيب حريقة، فإذا بي أشعر أن اللهيب في بدني. أريد إطفاء هذا اللهيب. ما وجدت نفسي إلا على شاطئ البحر. فخطر لي أن أطلب فرجا من هذا الكرب عند نبتون إله البحر، وأن ألتمس مطفئا لهذا اللهيب في اللجة. أي نعم، أي نعم. البحر خير مدفن للقلوب الملوعة. لعل عشرة جنيات البحر تلطف هذا الهياج الغرامي! ولعل رقصهن يسلي الفؤاد فيهدئ روعه. أي نعم إلى عشرة جنيات البحر!
ما زلت أتمشى على الشاطئ إلى أن بلغت إلى بعض الصخور حيث المياه عميقة عند الشاطئ، فقلت: لا ريب أن هنا مرتع جنيات البحر. إليك أيتها الجنيات التي كنت معبودة أسيا الصغرى. إليك قربانا على مذبحك. كلي جسده وسري روحه.
وما ترددت في أن ألقيت بنفسي إلى الماء الذي يصادم تلك الصخور. ما أزعجني حينئذ سوى برد الماء إذ كان الفصل فصل برد. على أني ما لبثت أن أحسست بشيء يتخبط أمامي وقد صدمني صدمة خفيفة. فارتددت مذعورا. فما ارتددت حتى رأيت الاختباط قد ازداد أمامي. ثم ظهر شبه رأس من وراء الموجة، فقلت لنفسي مرتعبا: لقد صح ما ظننته خرافة تاريخية. هذه جنية البحر.
عند ذلك حدث الاختباط ثالثة، فإذا بي أرى مثل ملابس تخفق مع الموجة على بدن. الله! ما هذا؟ ظهر القمر قليلا من وراء الغيم، واتضح لي ما رأيت بعض الاتضاح، شبح في الماء، أهذه جنية البحر؟
صفحة غير معروفة