فاستنجز الله وعده، واستنزل نصره، وتضرع إليه في أن يثبت قلوب المؤمنين. وتدانى الجمعان.
ولكن قريشا تنظر فترى عجبا، ولكن المسلمين ينظرون فيرون عجبا؛ ترى قريش فتى من أقوى شبابها قوة وأنضرهم نضرة وأشدهم بأسا يخرج من صفها وينحاز إلى محمد، ويرى المسلمون - والمهاجرون منهم خاصة - صديقا لهم قد عرفوه وأحبوه، ثم حزنوا عليه حين ظنوا - كما ظنت قريش - أنه قد عاد إلى دين آبائه. وتتساءل قريش عن هذا الفتى، وتتساءل كثرة المسلمين عن هذا الفتى، ثم يعرف أولئك وهؤلاء أنه عبد الله بن سهيل بن عمرو، خدع المشركين عن أنفسهم وعن نفسه، وانتفع بما أنزل الله في أمر عمار بن ياسر:
من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم .
فهو لم يكفر بقلبه، ولم يشرح بالكفر صدرا، ولكنه وجد قلبه كما وجد عمار قلبه حين فتنته قريش مطمئنا بالإيمان، وقد قال النبي لعمار: إن عادوا فعد. وفهم عبد الله بن سهيل آية القرآن وحديث النبي على وجهيهما، فلما أحس الفتنة من أبيه أظهر له ولقريش ما أرضاهم وأخفى عليه وعلى قريش ما أرضى الله، وها هو ذا يخرج من صفوف قومه وينحاز إلى صف المسلمين، ثم يسعى حتى يبلغ النبي فيهدي إليه سلامه، ويتلقى منه بركته، ثم يخرج إلى أصحابه من المهاجرين فيزحف معهم لقتال قريش وفيهم أبوه.
ويلقى أثناء الزحف أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة، زوج أخته سهلة، فإذا قص عليه قصته أثنى أبو حذيفة عليه وقال خيرا، ولم يزد على ذلك شيئا. وقد تدانى الجمعان، حتى لم يبق إلى تدانيهما سبيل إلا بسيف أو رمح، ولكن قريشا تنظر فترى عجبا، والمسلمون ينظرون فيرون عجبا: يرون فتى يصول في الميدان بين الصفين يدعو عتبة بن ربيعة للمبارزة، ويخرج عتبة للفتى، ولكنه لا يكاد يراه حتى ينصرف عنه وقد ملأ الغيظ قلوب قريش وملأ الإعجاب قلوب المسلمين: رأى أولئك وهؤلاء أبا حذيفة يدعو أباه للمبارزة، ويبلغ هند بنت عتبة وزوج أبي سفيان أن أباها وأخاها الوليد وعمها شيبة قتلوا، وأن أخاها أبا حذيفة قد دعا أباه للقتال، فتقول في هذا كله فتكثر القول، وتهجو أخاها أبا حذيفة بهذين البيتين:
الأحول الأثعل المشئوم طائره
253
أبو حذيفة شر الناس في الدين
أما شكرت أبا رباك من صغر
حتى شببت شبابا غير محجون
صفحة غير معروفة