وما زال القوم بسهيل حتى يخرجوه ويردوه إلى ما ألف منهم وألفوا منه، ويمضي من الأيام والأشهر ما شاء الله أن يمضي، وهؤلاء نفر من مهاجرة الحبشة يعودون إلى مكة، منهم من يعلن عودته ومنهم من يستخفي بها، وعاد في هؤلاء النفر عبد الله بن سهيل؛ فيلقاه أبوه أحسن لقاء، ويتحدث إليه حديث البشاشة والبشر، والفتى متحفظ متأثم، كأنه يرى في الاستماع لحديث أبيه بأسا، ولكن سهيلا يضرب إحدى يديه بالأخرى، فما هي إلا أن يستجيب له أعبد شداد يحيطون بعبد الله، فيوثقونه، ثم يحملونه سجينا إلى أعماق الدار، ومنذ اليوم يذيقه أبوه من الفتنة شيئا عظيما.
14
لم تعرف مكة في تاريخها الطويل القديم يوما كذلك اليوم المشهود، وإن كانت قد عرفت بعده أياما مشهودة ليست أقل منه شدة ونكرا.
كانت بلدا آمنا، لا يعرف أهله كيدا ولا مكرا ولا بغضا ولا عداء، وإنما يستقبلون أمورهم راضين عنها مبتهجين بها مطمئنين إليها، يكون بينهم التنافس في المال والاستباق إلى المجد، ولكنهم على ذلك لا يبغي بعضهم على بعض، ولا يبطش بعضهم ببعض، وإنما تجري أمورهم على الدعة والإسماح، وأقصى ما يبلغ الشر بينهم أن يقول بعضهم لبعض قليلا أو كثيرا مما يكره من القول، ثم لا يلبثون أن يعود بعضهم على بعض بالعافية، وأن يهدي بعضهم إلى بعض ألوان البر والمعروف. وقد عرفت العرب القاصية والدانية ذلك من أمرهم، فهوت
217
إليهم الأفئدة، وعطفت عليهم القلوب، واتصلت بهم الآمال، وتعلقت بهم النفوس، حتى أصبح بلدهم وما حوله من الأرض حرما آمنا يأوي إليه الخائف ويلوذ به الملهوف،
218
ولكن مكة تصبح في ذلك اليوم وقد أظهرت لها السماء ابتساما، فملأت بطاحها وجبالها ورباها بأشعة الشمس المشرقة الرائعة، ولكنها أضمرت لها عبوسا أي عبوس، فملأت قلوب نفر من أبنائها بالظلمة المظلمة والكيد المفضي بأهله إلى شر ما ينتهي إليه الناس.
أصبحت قريش في ذلك اليوم، فغدا الملأ منها إلى أنديتهم في المسجد، وأخذوا فيما كانوا يأخذون فيه من حديث، إلا نفر منهم لم يذهبوا إلى المسجد ولم يحضروا أندية قومهم، ولم يشغلوا أنفسهم ببيع أو شراء، ولم يسروا
219
صفحة غير معروفة