الانتصار في حجية قول الصحابة الأخيار
الناشر
مركز سطور للبحث العلمي
رقم الإصدار
الأولى
سنة النشر
١٤٤٠ ه
مكان النشر
دار الإمام مسلم للنشر والتوزيع- المدينة المنورة
تصانيف
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعد:
فهذا تفريغ (^١) لدرس «حجية قول الصحابي»، الذي ألقيتُه ليلة التاسع والعشرين من الشهر الخامس لعام ثمان وثلاثين وأربعمائة وألف من هجرة النبي - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم -.
وانطلاقًا من أهمية هذا الدليل الذي يحتاج إليه كثيرًا، قمت بمراجعة المادة المفرَّغة وتنقيحها وتوثيقها لتخرج في هذه الرسالة المكونة من مقدمة، وتمهيدٍ، وثلاثة فصول، وخاتمة وسميتها «الانتصار لحجية قول الصحابة الأخيار»، وهي على النحو التالي:
- المقدمة: وهي التي بين يديك الآن.
- التمهيد: تعريف الصحابي ومذهبه، أشياء أخرى.
- الفصل الأول: وهو خمسة مباحث:
- المبحث الأول: تحرير محل النزاع في حجية مذهب الصحابي.
- المبحث الثاني: أنواع مذهب الصحابي من حيث الجملة.
- المبحث الثالث: مقدمتان هامتان.
_________
(^١) قام بتفريغه بعض الإخوة الأفاضل، ووثقوه، ونسقوا الأصل وزادوا فيه وغيروا في الأسلوب بما يقربه لكتاب مؤلف بدل كونه مفرغًا، ووضعوا له فهرسًا كشافًا، فقمتُ بمراجعته فألفيتُه طيبًا، فجزاهم الله خيرًا وبارك فيهم.
1 / 5
- المبحث الرابع: الأدلة على حجية قول الصحابي.
- المبحث الخامس: أقوى ما يتمسك به القائلون بعدم حجية قول الصحابي.
- الفصل الثاني: مذهب الصحابي وأقسامه، وفيه ثلاثة مباحث:
- المبحث الأول: ابتداء الصحابي لحكمٍ شرعيٍّ.
- المبحث الثاني: تفسير الصحابي للنص، إما بتخصيص، أو تقييد، أو تبيين.
- المبحث الثالث: العمل عند اختلاف الصحابة.
- الفصل الثالث: تنبيهات مهمة، وفيه ثلاثة مباحث:
- المبحث الأول: الرد على من قال: قول الصحابي حجةٌ في تفسير النص،
لا في ابتداء الحكم.
- المبحث الثاني: تحقيق مناط مذهب الصحابي.
- المبحث الثالث: الذين ضيَّعوا الاحتجاج بمذهب الصحابي.
- الخاتمة.
والله أسأل أن يتقبل هذه الرسالة، وأن يجعلها نافعةً لخلقه، مقبولةً عنده سبحانه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
د. عبد العزيز بن ريس الريس
المشرف على موقع الإسلام العتيق
١٨/ ٤/ ١٤٣٩ هـ
1 / 6
تمهيد
ينبغي أن يعلم أن الصحابي: هو كل من لقي النبي ﷺ مؤمنًا به، ومات على ذلك، وإن تخلل ذلك رِدَّةٌ (^١).
والدليل على أنه يشترط في الصحابي أن يلقى النبي ﷺ مؤمنًا به دليلان:
الدليل الأول: أخرج مسلم من حديث أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ قال: «وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا» قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ» (^٢).
فالفرق بين أصحابه وإخوانه: أنه لقي أصحابه، ولم يلق إخوانه. فإذن كلاهما مؤمنٌ به، إلا أن أصحابه لقوه، دون إخوانه، وعليه فالصحابي من لقي النبي ﷺ مؤمنًا به.
الدليل الثاني: إجماع أهل السنة الذي حكاه الإمام أحمد في «أصول السنة» (^٣)، بل حكى الإمام أحمد أن من لقي النبي ﷺ ولو ساعة، فهو صحابيٌّ، وما حكاه في «أصول السنة» الأصل أنه مجمعٌ عليه عند أهل السنة، وحكى مثل هذا الإمام علي
_________
(^١) انظر في ذلك: «الإحكام» للآمدي (٢/ ٩٢)، و«البحر المحيط» للزركشي (٦/ ١٩٠ - ١٩١)، و«شرح مختصر الروضة» للطوفي (٢/ ١٨٠ - ١٨٦)، و«شرح مختصر التحرير» لابن النجار (٢/ ٤٦٥)، و«فتح المغيث» للسخاوي (٤/ ٧٨ - ٧٩)، و«تدريب الراوي» للسيوطي (٢/ ٦٦٧ - ٦٧٠)، و«إرشاد الفحول» للشوكاني (١/ ١٨٨ - ١٨٩).
(^٢) أخرجه مسلم (٢٤٩).
(^٣) انظر: «أصول السنة» للإمام أحمد (ص:٣٩ - ٤١).
1 / 7
بن المديني - رحمه الله تعالى - في عقيدته التي رواها اللالكائي (^١).
إذا تبيَّن هذا، فستكون هذه الرسالة-بإذن الله- في بحث «حجية مذهب الصحابي»، وقد يعبَّر عنه بقولهم «حجية قول الصحابي»، والأمر سهل، إلا أن التعبير بـ «المذهب» أشمل؛ لأنه يدخل فيه القول والفعل والإقرار، ولعله اشتهر عند العلماء التعبير بقولهم: «قول الصحابي» من باب التغليب؛ لأن القول أكثر، والأمر في ذلك واسع.
* * *
_________
(^١) انظر: «شرح أصول اعتقاد أهل السنة» للالكائي (١/ ١٨٧ - ١٨٨).
1 / 8
الفصل الأول
وهو خمسة مباحث:
* المبحث الأول تحرير محل النزاع في حجية مذهب الصحابي
* المبحث الثاني أنواع مذهب الصحابي من حيث الجملة
* المبحث الثالث مقدمتان هامتان
* المبحث الرابع الأدلة على حجية قول الصحابي
* المبحث الخامس أقوى ما يتمسك به القائلون بعدم حجية قول الصحابي
1 / 9
المبحث الأول
تحرير محل النزاع في حجية مذهب الصحابي
وتحرير محل النزاع في حجية مذهب الصحابي في أمور أربعة:
الأمر الأول: ألا يخالف الصحابي نصا، فإذا خالف الصحابي نصا، فإن قوله مردودٌ، ذكر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (^١)، وابن القيم في كتابه «إعلام الموقعين» (^٢)، والعلائي في كتابه «إجمال الإصابة» (^٣)، بل حكى الإمام الشافعي على ذلك الإجماع، حيث قال - رحمه الله تعالى ـ: «أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة النبي ﷺ، فليس له أن يدعها لقول أحد كائنا من كان» (^٤).
الأمر الثاني: ألا يخالف الصحابي صحابيا آخر، فإذا خالف الصحابي صحابيا آخر، فليس قول أحدهم أولى من الآخر، إلا ما سيأتي في مبحث الخلفاء الراشدين - إن شاء الله ـ.
وعلى هذا إجماع أهل العلم، حكى الإجماع الآمدي (^٥)، وشيخ الإسلام ابن تيمية كما في «مجموع الفتاوى» (^٦)،، والعلائي في كتابه «إجمال الإصابة» (^٧) وأصله ابن القيم في كتابه «إعلام الموقعين» (^٨).
_________
(^١) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١/ ٢٨٣ - ٢٨٤).
(^٢) انظر: «إعلام الموقعين» لابن القيم (٦/ ٣٦ - ٣٧).
(^٣) انظر: «إجمال الإصابة» للعلائي (ص: ٩٠ - ٩١).
(^٤) انظر: «إعلام الموقعين» لابن القيم (٢/ ١١).
(^٥) انظر: «الإحكام» للآمدي (٤/ ١٤٩).
(^٦) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١/ ٢٨٣ - ٢٨٤)، و(٢٠/ ١٤).
(^٧) انظر: «إجمال الإصابة» للعلائي (ص: ٧٨).
(^٨) انظر: «إعلام الموقعين» لابن القيم (٥/ ٥٤٦).
1 / 11
الأمر الثالث: ألا يكون لقول الصحابي حكم الرفع، فقد يقول الصحابي قولا، أو يفعل فعلا، وله حكم الرفع، فما كان له حكم الرفع، فمثله حجةٌ؛ لأنه وَحْيٌ لا لأنه قول الصحابي، وقد بيَّن هذا الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في كتابه «إعلام الموقعين» (^١).
الأمر الرابع: ألا يكون قول الصحابي مهجورًا، بمعنى: أن يتابع الصحابيَ أهلُ العلم، فلو ذهب الصحابي إلى مذهب، وأجمع العلماء على عدم العمل بهذا القول، فإن هذا القول ليس حجة، ويجب أن يترك، بل لو أجمع العلماء على ترك حديث نبوي، فإنه لا يعمل بهذا الحديث؛ لأن هذا الإجماع إما يدل على ضعف هذا الحديث، أو على أن الحديث منسوخٌ، فقول الصحابي من باب أولى.
ومن أمثلة ذلك: ما روى البزار بإسناد صحيح، أن أبا طلحة الأنصاري ﵁ أكل البرد، وهو صائم، وقال: ليس طعاما ولا شرابا (^٢).
هذا الأثر وهو أن البرد لا يفسد صوم الصائم، قد أجمع العلماء على خلافه، حكى الإجماع ابن الصلاح في كتابه «شرح مشكل الوسيط» (^٣)، والشاطبي في كتابه «الموافقات» (^٤).
_________
(^١) انظر: «إعلام الموقعين» لابن القيم (٦/ ٣١ - ٣٣).
(^٢) أخرجه البزار في «المسند» (٧٤٢٨)، والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (٥/ ١١٥) وغيرهما، موقوفًا على أبي طلحة.
وصححه موقوفًا ابن حزم في «المحلى» (٤/ ٣٠٤)، و«الإحكام» (٦/ ٨٣ - ٨٤)، وكذلك الألباني في «السلسلة الضعيفة» (٤/ ١٥٤).
وجاء مرفوعا من طريق ضعيف كما عند أبي يعلى في «المسند» (١٤٢٤)، و(٣٩٩٩) وغيره، وضعفه الألباني في «السلسلة الضعيفة» (٦٣).
(^٣) انظر: «شرح مشكل الوسيط» لابن الصلاح (٣/ ١٩٨ - ١٩٩).
(^٤) انظر: «الموافقات» للشاطبي (٣/ ٢٧٤ - ٢٧٥).
1 / 12
فإذا أجمع العلماء على عدم العمل بمذهب الصحابي سواء كان قولا أو فعلا أو تقريرا، فإنه لا يعمل به على ما تقدَّم تقريره.
وبعد تحرير محل النزاع في حجية مذهب الصحابي يتضح: أن قول الصحابي حجة مطلقًا، فإذا تنازع العلماء في مسألة على قولين، وكان في أحد القولين قول الصحابة، فإن هذا القول يكون راجحًا؛ لأن الصحابي قد ذهب إلى هذا القول.
* * *
1 / 13
المبحث الثاني
أنواع مذهب الصحابي من حيث الجملة
إذا تبين هذا، فإن مذهب الصحابي من حيث الجملة نوعان:
النوع الأول: أن يكون قول الصحابي مشتهرا معروفًا، وذكر الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في كتابه «إعلام الموقعين» (^١) أنه إذا قال الصحابي قولا فاشتهر، فإن طائفةً ذهبت إلى أنه إجماعٌ، وأخرى قالت: إنه حجةٌ وليس إجماعًا، وذهبت شرذمة من الفقهاء المتكلمين والمتأخرين إلى أنه ليس إجماعا ولا حجة.
ثم ردَّ هذا الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى رحمة واسعة ـ، وسيأتي ما ذكره من الأدلة على حجية قول الصحابي في النوع الثاني، وهو دليل على أن النوع الأول حجةٌ من باب أولى.
النوع الثاني: ألا يشتهر قول الصحابي، أو لا يعلم هل اشتهر أم لا، فقرر الإمام ابن القيم أنه حجةٌ، قال: هذا قول أبي حنيفة ومالك وأحمد والشافعي في القديم والجديد (^٢).
وقال بعد ذكر النقولات عن الشافعي: فهذا كلام الشافعي ﵀ ورضي عنه- بنصه، ونحن نشهد باللَّه أنه لم يرجع عنه، بل كلامه في الجديد مطابق لهذا موافق له كما تقدم ذكر لفظه (^٣).
لأن بعض أصحاب الشافعي خالفوا، وقالوا: ليس هذا قولا للشافعي في الجديد (^٤).
_________
(^١) انظر: «إعلام الموقعين» لابن القيم (٥/ ٥٤٨ - ٥٥٠).
(^٢) انظر: «إعلام الموقعين» لابن القيم (٥/ ٥٥٠ - ٥٥٤).
(^٣) انظر: «إعلام الموقعين» لابن القيم (٥/ ٥٥٤).
(^٤) انظر: «إعلام الموقعين» لابن القيم (٥/ ٥٥٠ - ٥٥٢).
1 / 14
لكن العلائي في كتابه «إجمال الإصابة» (^١) - وهو من الشافعية - قرَّر أنه قول الشافعي في القديم والجديد.
وذكر البيهقي (^٢) أن للشافعي كلاما يدل على قوله بحجية قول الصحابي في الجديد، فهو قوله في القديم والجديد، وذكر مثل هذا شيخ الإسلام ابن تيمية كما في «مجموع الفتاوى» (^٣).
فإذن، هذا قول أئمة المذاهب الأربعة، وهو قول أبي عبيد القاسم بن سلام، وإسحاق بن راهويه (^٤)، ثم ذكر الإمام ابن القيم ﵀ ستة وأربعين دليلًا (^٥) على حجية قول الصحابي، وأطال النفس في ذلك ﵀ رحمة واسعة ـ.
وسأحاول في هذا الرسالة أن ألخص ما تيسَّر من الأمور المهمة التي أشار إليها ابن القيم ﵀؛ لأن أوسع وأحسن من بحث هذه المسألة هو الإمام ابن القيم ﵀ في كتابه «إعلام الموقعين».
* * *
_________
(^١) انظر: «إجمال الإصابة» للعلائي (ص: ٣٦ - وما بعدها).
(^٢) انظر: «معرفة السنن والآثار» (١/ ١٨٣ - ١٨٤)، و«المدخل إلى السنن الكبرى» (ص:١٠٩ - ١١٠).
(^٣) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢٠/ ١٤).
(^٤) انظر: «إعلام الموقعين» لابن القيم (٥/ ٥٥٠).
(^٥) انظرها في: «إعلام الموقعين» لابن القيم (٥/ ٥٦٦) إلى (٦/ ٣٠).
1 / 15
المبحث الثالث
مقدمتان هامتان
وقبل أن أبدأ بذكر الأدلة على حجية قول الصحابي أقدِّم بمقدمتين هامتين للغاية، وهما - في ظني - مفتاح هذه المسألة:
المقدمة الأولى: ليس قول الصحابي حجة لذاته؛ فالصحابي في نفسه ليس معصومًا، بدليل أن الصحابة يختلفون على قولين، فإذن ليس قول الصحابي في نفسه حجة، وإنما هو حجة لما انضاف إليه، كما قاله الإمام ابن القيم ﵀ (^١).
وبهذا يجاب على إشكال يردده الظاهرية وبعض المتكلمين ومن تأثر بهم من أهل السنة، يقولون: كيف يقال: إن قول الصحابي حجة، وهو ليس معصوما، وقد يخطئ؟
وجواب هذا الإشكال أن يقال: هذا صحيح، وهو ليس حجة في ذاته، وإنما حجة لما انضاف إليه؛ وذلك أنه بعبارة تقريبية من وجه: صورةٌ من صور نقل الإجماع، فالصحابي إذا قال قولا، ولم يخالف، فإن هذا إجماعٌ، فهو حجةٌ لما انضاف إليه وهو الإجماع.
المقدمة الثانية: قول الصحابي حجةٌ من باب الظن الغالب، وقد نصَّ على هذا ابن القيم في كتابه «إعلام الموقعين» (^٢)؛ وذلك أن الإجماع الظني إجماع من باب الظن الغالب؛ لأن الإجماع نوعان: قطعي وظني، فما بني على نصٍّ ظاهر، كقوله تعالى: ﴿أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾، فهو إجماع قطعي، وما ليس كذلك فهو إجماع ظني، فالقول بحجية قول الصحابي هو من باب الظن الغالب.
* * *
_________
(^١) انظر: «إعلام الموقعين» لابن القيم (٦/ ٣٧).
(^٢) انظر: «إعلام الموقعين» لابن القيم (٦/ ٢١).
1 / 16
المبحث الرابع
الأدلة على حجية قول الصحابي
بعد هاتين المقدمتين السابقتين فالأدلة على حجية قول الصحابي ما يلي:
الدليل الأول: كل دليل على حجية دليل الإجماع، فهو دليل على أن مذهب الصحابي حجة؛ وذلك أن الصحابي أو الصحابيين أو الثلاثة أو الأربعة ... إذا قالوا قولا، ولم يخالفوا، فإن هذا إجماعٌ، ولا يصح لأحد أن يقول: إن مثل هذا الإجماع لا يقبل، أو يقول ما شاع عند المتكلمين إن هذا إجماع سكوتي ثم يرده؛ وذلك أن مقتضى رد الإجماع السكوتي أنه لا إجماع؛ لأنه لا يوجد إجماع منطوق، بمعنى: أن كل عالم نطق بقول في هذه المسألة (^١).
بل لو أردت أن تثبت عن أهل بدر أنهم قالوا بوجوب الصلوات الخمس لما استطعت أن تثبت ذلك، فإذا لم تستطع ذلك في الصلوات الخمس، وفي مثل أهل بدر، فغيرها من المسائل من باب أولى، فالقول بأنه لا بد أن ينطق كل عالم، مقتضى هذا إسقاط دليل الإجماع، وقد ذكر هذا بمعناه ابن قدامة ﵀ في كتابه «روضة الناظر» (^٢).
إذن الدليل الأول: كل دليل يدل على حجية الإجماع يدل على حجية قول الصحابي، ومن ذلك: قوله تعالى: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾.
إذا سئلت في مسألة يوجد فيها قولٌ للصحابة أو قولان أو ثلاثة أو أربعة: ما أعلى
_________
(^١) راجع في ذلك رسالتنا «حجية الإجماع وكشف بعض الشبهات».
(^٢) انظر: «روضة الناظر» لابن قدامة (١/ ٤٣٧).
1 / 17
قول في هذه المسألة؟
الجواب: هو قول الصحابي، إذن هو سبيل المؤمنين في هذه المسألة فيما تعلم، ومن خالفهم بعد فهو محجوجٌ بهم، إلى غير ذلك من الأدلة على حجية الإجماع (^١).
الدليل الثاني: أدلةٌ خاصةٌ بالصحابة، وسأذكر دليلين: دليل نصي أثري، ودليل من جهة المعنى.
أما الأول النصي الأثري: قد أخرجه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري، أن النبي ﷺ قال: «النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي، فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ» (^٢).
شبَّه النبي ﷺ نفسه بالنجم، والنجم يهتدى به، وشبَّه الصحابة بذلك، فدَلَّ على أنهم حجةٌ، فمن اهتدى بهم سلك الصراط المستقيم، ومن سار على منهاجهم نجا، هذا دليلٌ واضحٌ على حجية قول الصحابي.
ومثل ذلك ما جاء في بعض الصحابة، كما أخرج الخمسة إلا النسائي، من حديث العرباض بن سارية ﵁، أن النبي ﷺ قال: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» (^٣).
هذا صريحٌ في حجية قول بعض الصحابة، كالخلفاء الراشدين، ومن ذلك ما أخرج مسلم من حديث أبي قتادة، أن النبي ﷺ قال: «إنْ يطع الناس أَبَا بَكْرٍ،
_________
(^١) راجعها في رسالتي «حجية الإجماع وكشف بعض الشبهات».
(^٢) أخرجه مسلم (٢٥٣١).
(^٣) أخرجه أحمد (٤/ ١٢٦)، وابن ماجه (٤٢)، وأبو داود (٤٦٠٧)، والترمذي (٢٦٧٦) وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (٤٦٠٧) طبعة المعارف.
1 / 18
وَعُمَرَ يَرْشُدُوا» (^١)، وهذا في بعض الصحابة أيضًا.
أما الدليل الثاني الذي يرجع إلى المعنى: فهو ما ذكره ابن القيم ﵀، قال: «إننا والصحابة نشترك في مدارك، وينفصلون عنا بمدارك، والمدارك التي ينفصلون عنها كالتالي، وذلك أن الصحابي إذا قال قولا، يحتمل أنه سمعه من النبي ﷺ، ويحتمل أنه سمعه ممن سمعه من النبي ﷺ، ويحتمل أنه ينقل إجماعا في زمانهم، ويحتمل أنه فهمٌ ظهر له لم يظهر لنا، ويحتمل - هذا احتمال خامس - أنه أمْرٌ دلت عليه اللغة، وهم أئمة في باب اللغة، وعرفوه بالسياق واللغة وغير ذلك، وهذه الاحتمالات الخمسة تدل على أن قوله حجة.
قالوا: هناك احتمالٌ سادسٌ: أن يكون اجتهد الصحابي فأخطأ، لكن هذه الأمور الستة - وهي المدارك التي انفصلوا بها عنا - تدل على أن قولهم حجة من باب الظن الغالب، والظن الغالب حجةٌ في الشريعة. هذه مدارك انفصلوا بها عنا (^٢).
وهناك مدارك اشتركنا نحن وإياهم فيها، لكن الفرق بينا وبينهم فيها كالفرق بين السماء والأرض، وذلك يُعرف بما ذكره ابن القيم - رحمه الله تعالى ـ،: أن الواحد منا إذا أراد أن يدرس اللغة، أخذ من ذهنه شعبة، أما الصحابي فهي سليقته التي نشأ عليها، والحديث أخذ من ذهنه شعبة، أما الصحابي يقول: رأيت محمدًا ﷺ، وقال محمدٌ ﷺ، وعلم الأصول أخذ من ذهنه شعبة، أما الصحابي لا يحتاج إلى ذلك، إلى أن قال بعد ذلك: ثم إذا انتهينا من هذا كله، وصلنا بأذهان قد كلَّت وتعبت، ومنا من يجدّ المسير، ومنا من لا يجدّ المسير، فهذا كله ليس عند الصحابي (^٣).
_________
(^١) أخرجه مسلم (٦٨١).
(^٢) انظر: «إعلام الموقعين» لابن القيم (٦/ ١٩ - ٢١).
(^٣) انظر: «إعلام الموقعين» لابن القيم (٦/ ٢١ - ٢٢).
1 / 19
إذن، هذا أمْرٌ اشتركنا نحن وإياهم فيه، إلا أن الفرق بيننا وبينهم عظيمٌ للغاية ﵃ أرضاهم ـ.
وخلاصة ما تقدم في شيئين:
الشيء الأول: أن كل دليل يدل على حجية الإجماع يدل على حجية قول الصحابي، فهذا ليس خاصًّا بهم.
والشيء الثاني: أن هناك أدلة خاصة بهم أو ببعضهم، ومنها ما سبق ذكره في المدارك المشتركة والمدارك المنفصلة.
* * *
1 / 20
المبحث الخامس
أقوى ما يتمسك به القائلون بعدم حجية قول الصحابي
وأقوى ما يتمسك به القائلون بأن قول الصحابي ليس حجة أمران:
الأمر الأول: أنه عند الخلاف يرجع إلى ما قال الله والرسول ﷺ، قال سبحانه: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾، إلى غير ذلك من الأدلة، قالوا: ولم يقل الله: فردوه إلى أبي بكر وعمر، ولا إلى الصحابة.
وهذا إذا نظرت في أول الأمر وبادئه، ظننته قويا، بيد أنَّه من أضعف الأدلة؛ وذلك أن مقتضى القول بحجية قول الصحابي أنه ردٌّ إلى الله ورسوله ﷺ، والذين قالوا إن قول الصحابي حجة ما قالوه إلا أن الأدلة دلت على ذلك، وقد تقدم ذكر بعضها، هذا أولا.
ثانيا: يلزم على هذا ألا يكون الإجماع حجةً، فبهذا نوافق المعتزلة؛ لأن أول من أنكر الإجماع هو النظَّام المعتزلي، كما ذكره ابن قدامة (^١)، وغيره من أهل العلم (^٢).
فإذن مقتضى الرجوع إلى كتاب الله وسنة النبي ﷺ هو القول بأن قول الصحابي حجة؛ لأن الشريعة دلت على هذا.
الأمر الثاني: أن الصحابة ليسوا معصومين، وقد يخطؤون، فكيف نرجع في معرفة الحق والباطل والحلال والحرام إلى أناس قد يخطؤون؟
_________
(^١) انظر: «روضة الناظر» لابن قدامة (١/ ٣٧٩).
قال أبو المعالي الجويني في «البرهان في أصول الفقه» (١/ ٢٦١): «أول من باح بِرَدِّه النظَّام، ثم تابعه طوائف من الروافض».
(^٢) راجع رسالتنا «حجية الإجماع وكشف بعض الشبهات».
1 / 21
وقد تقدمت الإشارة إلى هذا، وأؤكد ذلك بما يلي: وهو أنه تقدَّم أن الحجة ليست في ذات الصحابي، والصحابي في ذاته ليس معصومًا، بل يخطئ ويصيب؛ لذا إذا اختلفوا على قولين، فالحق في أحد هذين القولين، وإنما الاحتجاج بقولهم من باب الظن الغالب، ثم هو ليس لذاته، وإنما لما انضاف إليه، وهو أنه صورةٌ من صور حكاية الإجماع.
فبهذا إذا قال الصحابي قولا، ولم يخالَف، فالمسألة إجماعٌ فتكون الحجية في عدم مخالفة غيره له لا في ذات الصحابي.
إذن، خلاصة الجواب أن يقال: إن الحجية ليست بذات الصحابي، وإنما لما انضاف إليه؛ وذلك أن الاحتجاج به من باب الظن الغالب، وهو صورةٌ من صور الإجماع.
* * *
1 / 22
الفصل الثاني
مذهب الصحابي وأقسامه
ينقسم مذهب الصحابي إلى أقسام ثلاثة:
القسم الأول: ابتداء الصحابي لحكمٍ شرعيٍّ.
القسم الثاني: تفسير الصحابي للنص، إما بتخصيص، أو تقييد، أو تبيين.
القسم الثالث: العمل عند اختلاف الصحابة.
1 / 23
المبحث الأول
ابتداء الصحابي لحكمٍ شرعيٍّ
هذا هو القسم الأول من أقسام مذهب الصحابي، ومن الأمثلة عليه ما يلي:
المثال الأول: الجلوس للتشهد في سجدتي السهو إذا كان السجود بعد السلام، فقد جاء بذلك أحاديث مرفوعة، لكن لا تصح، كما بين ذلك ابن تيمية (^١) وغيره، وإنما ثبت عن عبد الله بن مسعود ﵁ فيما أخرجه ابن أبي شيبة (^٢).
وإلى هذا ذهب أبو حنيفة (^٣) وأحمد (^٤) - رحمهما الله تعالى - ولم يخالَف ابن مسعود، فيكون هذا القول حجة؛ لأن الصحابي قد ابتدأ حكما جديدًا، ولم يخالَف.
المثال الثاني: الزكاة في عروض التجارة،
لم يصح فيه حديث عن رسول الله ﷺ، وإنما العمدة فيه على الآثار، وعلى الثبوت عن الصحابة، كابن عمر (^٥) وغيره (^٦) ﵃ وأرضاهم ـ.
_________
(^١) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢٣/ ٤٨ - ٥١).
(^٢) أخرجه ابن أبي شيبة (٤٤٩٢)، و(٤٤٩٣).
(^٣) انظر: «الاختيار لتعليل المختار» لابن مودود الحنفي (١/ ٧٢).
(^٤) انظر: «الأوسط» لابن المنذر (٣/ ٣١٥).
(^٥) أخرجه ابن أبي شيبة (١٠٥٦٠)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٤/ ١٤٧).
(^٦) كعمر بن الخطاب ﵁، أخرجه عبد الرزاق (٧٠٩٩)، وابن أبي شيبة (١٠٥٥٧)، و(١٠٥٥٨)، وأبو عبيد في «الأموال» (١/ ٥٢٠)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٤/ ١٤٧) وغيرهم.
1 / 25
وذهب إلى هذا جماهير أهل العلم؛ لأن الصحابي لم يخالَف في ذلك (^١).
المثال الثالث: رفع اليدين في تكبيرات الجنازة، ما عدا تكبيرة الإحرام، تنازع فيها أهل العلم، وأصح الأقوال: أن اليدين ترفع في جميع تكبيرات الجنازة، والدليل على ذلك أنه ثبت عن ابن عمر ﵄ فيما رواه ابن أبي شيبة (^٢) وابن المنذر (^٣)، فيكون رفع اليدين مستحبًا؛ لأنه قول صحابي لم يخالَف.
المثال الرابع: وجوب الوضوء من تغسيل الميت: جاء فيها أحاديث مرفوعة، لكنها لا تصح (^٤) وإنما العمدة على ثبوته عن عبد الله بن عباس ﵄ عند عبد الرزاق (^٥).
وإليه ذهب الإمام أحمد (^٦)، وقال ابن قدامة: وليس بين الصحابة خلاف في ذلك (^٧)، فيكون حجةً.
_________
(^١) قال ابن قدامة في «المغني» (٤٤٩٣): «تجب الزكاة في قيمة عروض التجارة، في قول أكثر أهل العلم. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن في العروض التي يراد بها التجارة الزكاة، إذا حال عليها الحول.
روي ذلك عن عمر، وابنه، وابن عباس. وبه قال الفقهاء السبعة، والحسن، وجابر بن زيد، وميمون بن مهران، وطاوس، والنخعي، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأبو عبيد، وإسحاق، وأصحاب الرأي».
(^٢) أخرجه ابن أبي شيبة (١١٤٩٨).
(^٣) أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (٣١٠٨).
(^٤) قال ابن المنذر في «الأوسط» (٥/ ٣٥٠): «الاغتسال من غسل الميت لا يجب، وليس فيه خبر يثبت، قال أحمد: «لا يثبت فيه حديث»».
(^٥) أخرجه عبد الرزاق (٦١٠١)، وابن المنذر في «الأوسط» (٢٩٣٩).
(^٦) انظر: «الإنصاف» للمرداوي (١/ ٢١٥).
(^٧) انظر: «المغني» لابن قدامة (١/ ١٢٣)، حيث قال: «فروي عن ابن عمر وابن عباس أنهما كانا يأمران غاسل الميت بالوضوء. وعن أبي هريرة، قال: أقل ما فيه الوضوء. ولا نعلم لهم مخالفا في الصحابة».
1 / 26