جلوس الملكة فكتوريا
مرض الملك وليم الرابع بضعة أسابيع وقضى نحبه في قصر وندسور في العشرين من شهر يونيو (حزيران) سنة 1837 الساعة الثانية بعد نصف الليل، وكان رئيس أساقفة كنتربري عنده فقام هو ومركيز كوننهام وطبيب من الأطباء الذين شاهدوا وفاته وأسرعوا إلى قصر كنسنتون؛ حيث الأميرة فكتوريا فبلغوه الساعة الخامسة صباحا، وجعلوا يقرعون الباب مدة إلى أن استيقظ الحاجب وفتح لهم فطلبوا أن يروا الأميرة فكتوريا ليخبروها بأمر هام، فقال لهم الخدم: إنها نائمة. فقالوا إننا جئنا بأمر متعلق بمملكتها فيجب أن تستيقظ لأجله. فنهضت حالا وطرحت رداء على كتفيها وقابلتهم على تلك الحالة والدموع ملء عينيها، ويقال إنه لما أخبرها رئيس الأساقفة بوفاة عمها، قالت له: ألتمس منك أن تصلي لأجلي. فركعوا كلهم وطلبوا العون الإلهي.
وانتشر نعي الملك في البلاد حالا، وأول شيء فعلته الملكة فكتوريا أنها كتبت تعزي امرأة عمها وعنونت الكتاب «إلى جلالة الملكة في قصر وندسور» واطلع بعض الحضور على العنوان قبل إرسال الكتاب، فقالوا لها: أنت هي الملكة! فقالت: نعم، ولكنني لا أريد أن أكون السابقة إلى تذكير امرأة عمي بذلك. وعرضت على امرأة عمها أن تبقى في قصر وندسور فلم تر مسوغا لذلك.
وبعد بضع ساعات أقبل لورد ملبرن رئيس الوزراء إلى قصر كنسنتن؛ لكي يقابل الملكة ويتلقى أوامرها، وكان شيخا واسع الاختبار، لين العريكة، عارفا بأطوار الناس، عرك الدهر أعواما كثيرة، وخبر ضروب السياسة، ولما وقع نظرها عليه عرفت بالزكانة التي يمتاز بها نوع النساء أنه موضع ثقتها ومعتمد سياستها، وكانت أمها قد علمتها كل ما يتعلق بتاريخ بلادها وأحوالها السياسية على ما في كتب التاريخ والسياسة، وأرتها واجبات الحاكم الدستوري، وكيف يجب أن يتصرف مع شعبه ووزرائه إلا أن هذا التعليم كان نظريا، ولم يبتدئ أن يكون عمليا إلا حينئذ حينما أخذت تشارك وزراءها في سياسة بلادها ولا سيما وزيرها اللورد ملبرن، فإنه كان يحترمها احتراما يفوق الوصف ويخلص لها النصح، ويشرح لها كل المسائل شرحا واضحا، لا هو بالطويل الممل ولا بالقصير المخل، وكان يقيم معها أربع ساعات كل يوم ويخرج معها راكبا ساعتين وهو يخاطبها في شئون الملك، ويشرح لها مشاكله ويفسر غوامضه حتى غار منه كثيرون من رجال الدولة، ولا سيما الذين يعدون مقامهم أرفع من مقامه، وعجب أصدقاؤه من صبره ونشاطه مع أنه كان محبا للراحة كارها للتعب ولم يكن له غرض من اهتمامه بشئون الملكة إلى هذا الحد إلا القيام بما شعر أنه واجب عليه نحو وطنه وأمته.
وجاء أيضا عماها دوق كمبرلند ودوق سسكس ورئيسا الأساقفة وغيرهم من رجال الدولة، ولما كان عددهم كثيرا ارتأى أحدهم أن تدخل لجنة منهم فتخبر الملكة بما تم فكان كذلك، واجتمع المجلس الخاص وخرجت اللجنة من حضرة الملكة ومعها المنشور التالي منها فتلاه على الحضور وهو:
إن الخسارة الفادحة التي أصابت الأمة بوفاة جلالة عمي المحبوب قيدتني بواجبات الاهتمام بحكومة هذه السلطنة، وقد ألقيت علي هذه الواجبات فجأة على صغر سني، ولولا اعتقادي أن العناية الإلهية التي دعتني إلى هذا المنصب تؤيدني في القيام بما يطلب مني، ولولا أني أجد من نبالة مقاصدي وغيرتي على خير شعبي العضد الذي يرافق الشيخوخة وطول الخبرة لرزحت تحت هذا العبء، وإني ألقي اتكالي على حكمة العناية الإلهية وعلى ولاء شعبي وحبه لي، ولقد كان من نصيبي أن أخلف ملكا أحبه شعبه واحترمه؛ لأنه كان محافظا دائما على ما لشعبه من الحقوق والحرية، ولأن أقصى مرامه كان ترقية البلاد وإصلاح قوانينها، وإني ربيت في البلاد الإنكليزية، ربتني أمي بما يعهد فيها من الحنو والذكاء، وهي أشد الأمهات حبا، وتعلمت من حداثتي أن أحترم قوانين بلادي وأحبها، وسيكون غرضي الدائم أن أحتفظ الاحتفاظ التام بالديانة المصلحة التي قررتها الشرائع مذهبا لهذه البلاد، مبيحة لكل أحد الحرية الدينية وأحمي حقوق كل رعاياي وأزيد من راحتهم ورفاهتهم بكل جهدي.
وقد مرت سبعون سنة منذ نطقت بهذه الوعود والعهود، وكل سنة منها تشهد بأنها قامت بعهودها، ولم تخلف وعدا من وعودها والسماء والأرض وأمم الشرق والغرب تزكي هذه الشهادة، ومن لا يزكيها وهو يرى بلاد الإنكليز ملجأ لكل مضطهد لسبب ديني أو سياسي، ورايات النجاح والفلاح تخفق في البلاد الإنكليزية في كل القارات والجزائر في مشارق الأرض ومغاربها.
وفيما كان الجرس الكبير في كنيسة مار بولس يدق دقة الحزن على الملك، كان رجال السلطنة ومشيرو الدولة تفدون إلى قصر كنسنتون لمبايعة الملكة، ولما انتظم عقدهم دخلت عليهم بثياب الحداد فاستقبلها عماها وركعا أمامها وبايعاها الملك وأقسما لها يمين الطاعة، فاحمر وجهها خجلا كأنها استغربت الفرق الشاسع بين علائق الناس النسبية والسياسية، ثم دنا بقية رجال الدولة وركعوا أمامها بحسب طبقاتهم، وقبلوا يدها فقابلتهم وهي على تمام الرصانة والهدو كأنها ألفت ذلك منذ حداثتها، قال السر روبرت بيل الوزير الشهير إنه كانت تلوح على وجهها أمارات من يعرف ثقل مهام الملك فيهابها ولكنه لا يجزع منها.
وهذه ترجمة البيعة التي تليت حينئذ:
لقد شاءت العزة الإلهية أن تتوفى إلى رحمتها ملكنا وسيدنا ومولانا الملك وليم الرابع السعيد الذكر الذي بوفاته آل تاج الممالك المتحدة ممالك بريطانيا العظمى وأرلندا إلى الأميرة العظيمة السامية ألكسندرينا فكتوريا مع حفظ حق من يولد لملكنا وليم الرابع المتوفى بعد وفاته، فنحن أمراء هذه المملكة الروحيين والزمنيين المجتمعين في هذا المكان مع الذين من مجلس ملكنا المتوفى الخاص، وغيرهم من السادة وذوي المقامات ومحافظ لندن وسكانها نعترف ونعلن بصوت واحد واتفاق اللسان والقلب، أن الأميرة السامية القديرة ألكسندرينا فكتوريا قد صارت الآن بموت ملكنا السعيد الذكر ملكتنا الوحيدة الشرعية بنعمة الله ملكة الممالك المتحدة بريطانيا العظمى وأرلندا حامية الإيمان، التي لها نعترف بالولاء التام والطاعة الدائمة بالحب والخضوع، ونسأل الله الذي منه الملوك والملكات ينالون الملك أن يبارك الأميرة فكتوريا لتملك علينا سنين كثيرة سعيدة.
صفحة غير معروفة