يعقوب صروف
تمهيد
أمران يضيق بهما الكاتب ذرعا؛ قلة المادة حتى تقصر عن مراده، وكثرتها حتى تزيد عليه. والثاني شأن من يحاول أن يلخص في صحف قليلة سيرة ملكة عظيمة جلست على سرير الملك ستين عاما، وساست نحو أربعمائة مليون من البشر في مشارق الأرض ومغاربها، وشدت أزرها بأحكم الوزراء وأدهى رجال السياسة، فارتقت بلادها في عهدها ارتقاء لا مثيل له في عصر من العصور؛ فإن المادة غزيرة تملأ مجلدات كثيرة ومجال البحث واسع لا يتسنى للمؤرخ أوسع منه، ولكن تلخيصه في صحف قليلة يوقع الكاتب في حيرة فيتردد بين الإقدام والإحجام. غير أن مناقب هذه الملكة العظيمة، وتشوف المشارقة إلى استطلاع أخبارها والوقوف على سر السياسة التي ارتقى بها شعبها هذا الارتقاء النادر المثال، وخلو اللغة العربية من كتاب سطر فيه تاريخها وانضواء ملايين كثيرة من المتكلمين بها تحت اللواء البريطاني؛ كل ذلك حملنا على استخفاف المشاق والجري في هذه العقبة الكئود، فجمعنا الفصول التالية معتمدين على ما كتبه مترجمو حياتها، وعلى ما طالعناه في كثير من المجلات العلمية، وسنوجز المقال على قدر الإمكان.
الفصل الأول
أصل العائلة المالكة
العائلة المالكة الآن في بلاد الإنكليز من أصل ألماني دمه ممتزج بدم ملوك إنكلترا وملوك سكتلندا، وهي لم تستول على البلاد الإنكليزية بالفتح بل بحق وراثي خولها إياه الشعب البريطاني نفسه، وبحمايتها لمذهب الإصلاح المعروف بالمذهب البروتستانتي؛ فإنه لم يكد هذا المذهب ينتشر في ألمانيا حتى بلغ إنكلترا ومال إليه فريق كبير من أهاليها، ثم توالت على البلاد حوادث قوت شأن البروتستانت فيها واتفق أن فر ملكها من وجه شعبه فاستدعى الشعب أميرا ألمانيا ليكون ملكا عليهم، وهو ابن ابنة ملكهم تشارلس الأول، وزوج ابنة ملكهم جمس الثاني، فملك على البلاد هو وزوجته من سنة 1689 إلى سنة 1694 وتوفيت زوجته فاستقل بالملك ثم توفي سنة 1702، فخلفته أخت زوجته، وتوفيت سنة 1714 بلا عقب، فاستدعى الشعب الإنكليزي الأمير جورج لويس أمير هنوفر وملكوه عليهم؛ لأنه بروتستانتي المذهب، ونسب أمه متصل بملكهم جمس الأول، فملك على البلاد الإنكليزية باسم جورج الأول وتوفي سنة 1727، وخلفه ابنه جورج الثاني فملك 33 سنة وتوفي فجأة سنة 1760، وخلفه حفيده جورج الثالث جد الملكة فكتوريا، وكان صالحا محبا لشعبه فارتقت البلاد في أيامه واتسعت تجارتها ووفرت ثروتها، ولكنها خسرت الولايات المتحدة الأميركية، خسرتها لتصير بلادا جمهورية من أغنى جمهوريات الأرض وأقواها.
وتوفي الملك جورج الثالث سنة 1820، وكان ابنه قد ناب عنه في العشر السنوات الأخيرة من حياته، فاستقل بالملك حينئذ باسم جورج الرابع وتوفي سنة 1830، وكان له ابنة واحدة بارعة الجمال اسمها تشارلت اقترن بها الأمير ليوبولد الألماني أخو الأميرة التي صارت زوجة لأمير كنت ووالدة للملكة فكتوريا، وكانت الأمة الإنكليزية معلقة آمالها بالأميرة تشارلت لأدبها وكمالها، وحاسبة أن الملك يئول إليها لكنها توفيت سنة 1817 أي قبل أبيها وجدها فانتقلت ولاية العهد إلى أعمامها ومنهم دوق كنت أبو الملكة فكتوريا.
الفصل الثاني
أبو الملكة وأمها
إن أبا الملكة فكتوريا ولقبه دوق كنت هو الابن الرابع من أبناء الملك جورج الثالث، وكان طويل القامة جميل المنظر طلق المحيا لين العريكة فصيحا في الإنكليزية والفرنسوية، ميالا إلى حزب الأحرار، ولم يكن هذا الحزب مقربا إلى بلاط أبيه، فاختار أن يكون جنديا وهو في الثامنة عشرة من عمره، فأرسل إلى هنوفر حيث درس الفنون الحربية، وكان المال المقطوع له قليلا جدا لا يقوم بنفقاته، فاضطر أن يستدين وعاد إلى إنكلترا من غير أمر أبيه فسخط عليه وأقصاه وبعث به إلى جبل طارق قائدا لحاميته، وكانت الحامية على غاية من فساد الآداب، فلما رأت منه اللين والتؤدة تمردت عليه فأرسلت إلى كندا بأميركا، وأرسل معها إلى تلك البلاد فأقام فيها إلى سنة 1794، وحضر بعض المعارك في جزائر الهند الغربية، وعاد إلى بلاد الإنكليز سنة 1800 وجعل حاكما على جبل طارق، وكانت حاميته قد شقت عصا الطاعة فرأى أن سبب ذلك السكر؛ فأخمد ثورتها وقاص زعماءها، ومنع باعة المسكرات من بيعها فأخلدت إلى السكينة.
صفحة غير معروفة