21
وهذا يوضح أن القومية الجمهورية، في بدايتها على الأقل ، لم تعتمد فقط على الوحدة الثقافية للأمة التي تسعى إلى تحريرها من الطغيان والخرافة، بل اعتمدت أيضا على الأساس العرقي لتلك الأمة. وكان هذا الأمر ينطبق على الأمريكيين مثلما كان ينطبق على الفرنسيين؛ فالسود، سواء أكانوا عبيدا أم أحرارا، اعتبروا أنهم يكونون فئة عرقية - عنصرية في هذه الحالة - منفصلة، واستغرق الأمر قرونا من الصراع والتظاهر لقبولهم كأمريكيين كاملين. علاوة على ذلك، فحتى في صفوف البيض كان الأساس العرقي الأنجلوسكسوني والسيطرة الأنجلوسكسونية على الأمة الأمريكية الناشئة مقبولا إلى حد بعيد. تعكس هذه الأمثلة أهمية العنصر العرقي في القومية الجمهورية، ومن ثم تقلل من التناقض الشائع بين القومية «المدنية» والقومية «العرقية» (لكن ليس الفرق بينهما).
22
توجد صفتان إضافيتان للقومية الجمهورية توضحان طابعها كدين «يهتم بالعالم المادي» أو ك «دين علماني»؛ الصفة الأولى: هي عبادة أتباعها للأرض كإقليم تاريخي، وكأرض «الأسلاف» وأرض الميلاد. كما رأينا، فإن المشاعر المرتبطة بأرض الوطن لها تاريخ طويل يعود إلى «قصة سنوحي» في مصر القديمة، والمزامير، لا سيما المزمور 137، وفي الأغاني التي تتحدث عن جمال جوقات اليونان القديمة المعروفة باسم «هيلاس» في مآسي سوفوكليس ويوريبيديس. والاعتراف بالسمات المميزة للمناظر الطبيعية الحضرية والريفية يظهر مجددا في النهضة الإيطالية، لا سيما في الرسومات الفلمنكية والهولندية؛ حيث بدأت تتخذ طابعا قوميا. وفي الرسم والشعر البريطاني والفرنسي والسويسري في القرن الثامن عشر، بدأ الطابع القومي للمناظر الطبيعية لتلك الدول يبرز على سبيل المثال من خلال شعر هالر عن جبال الألب، ومن خلال الشعراء الإنجليز أمثال جراي وطومسون وأوائل الرسامين البريطانيين الذين استخدموا الألوان المائية؛ كوزنز وجيرتن وساندبي. ولا شك أن الرومانسية جعلت هذه التوجهات والمشاعر رائجة ومنتشرة في مطلع القرن، وعززت الاهتمام القومي ومجدت الفلاحين وأسلوب حياتهم الريفي.
23
على الرغم من ذلك، فإن الحاجة المصاحبة إلى الوحدة القومية أسهمت أيضا في عبادة الوطن. من ناحية، فقد مالت إلى أن تجمع داخل نطاق الجمهورية مناطق مختلفة غالبا، من خلال كل من إدارة المسئولين ومشاركة الأفراد من كل المقاطعات في الجيش والمدارس والمهرجانات العامة وسياسة المركز. ومن ناحية أخرى، فقد أسست رمزية «فرنسا» على سبيل المثال، ومفاهيمها المتعلقة ب «الحدود الطبيعية» للأمة، ومن ثم إدراك الأهمية السياسية للجبال والأنهار والسواحل وما شابه ذلك في تحديد الحدود وطبيعة الأمة نفسها. ونظرا لميوعة مثل هذه التصورات، بالإضافة إلى الظروف السياسية المتغيرة باستمرار، فمن غير المفاجئ أن تلك الحاجة إلى الوحدة القومية قدمت ذرائع ومحفزات أخرى للصراعات والحروب على الحدود، كما في حالة الألزاس واللورين وفي حالة مدينتي تريستى وفيومى. إلا أن القبول السريع الذي حازته تلك الصراعات لدى كثير من الناس يشهد على الطابع شبه المقدس للتصور القومي للوطن وحدوده، وهذا موضوع قدمه قوميون جمهوريون مؤمنون بأفكار حسية وعقلانية متعلقة بالمجتمع القومي ومكانته في عالم من الأمم المتجانسة.
24
كانت صفة التقديس للوطن واضحة بصفة خاصة في ارتباطها ببطولة قتلى الحرب: الأرض والأموات. وعلى الرغم من أن موضوعات التضحية الجماعية ليست بجديدة بالمرة، فحتى عصر الإصلاح كانت التضحية البطولية ترى إلى حد بعيد في الملوك والفرسان المجاهدين الفرادى أو في القديسين الشهداء، باستثناء حالات التضحية الجماعية في اسكتلندا وسويسرا وإسبانيا. وبدأت أفكار حب «الوطن» والتضحية من أجله تتسلل إلى الشعر والنثر الفرنسي في القرن الخامس عشر، وتبنت إنجلترا وهولندا تلك الأفكار، لا سيما في تبجيل ويليام الصامت في القرن السابع عشر في هولندا. وبحلول القرن الثامن عشر، بدأت عبادة تقليد الأبطال تربط المجتمع القومي بقائمة أسماء الرجال العظماء، لا سيما محاربي العصور الوسطى ورجالها الوطنيين أمثال دو جيكلان، وبايارد، وتيل، وألفريد، وأكملت تلك القائمة بالأبطال المعاصرين مثل الجنرال وولف. إلا أن القومية الجمهورية هي من طورت هذا التفسير ووسعت أهميته الشعبية إلى حد بعيد. ومنذ منتصف القرن، طالب الفلاسفة والمروجون والنقاد الفرنسيون كلا من القادة والشعب على حد سواء أن يحاكوا شجاعة ووطنية الأبطال القدماء أمثال ليونيداس وسقراط وسكيفولا وسكيبيو، واقتبسوا علاوة على ذلك أعمال الفضائل المدنية والتضحية بالذات التي قام بها هؤلاء الأبطال. وأضافت الثورة أعدادا من شهدائها المعاصرين - رجالا أمثال لو بيلتييه ومارا - وابتكرت تكريما لهم مراسم ورموزا وعبادات شبه دينية، استخدمها «الوطنيون» ليبثوا في نفوس الشعب الأخلاق الصارمة المطلوبة من المواطنين في المجتمع القومي الذي ولد من جديد. وأصبح تبجيل تجربة الحرب والتضحية القومية لكل من الأفراد والجماعات شريان الحياة للأمة الجمهورية الذي من خلاله يمكن لمجتمعات معينة ولأديانها المدنية أن تتجدد باستمرار؛ مما يحول الهزيمة والنكسة إلى فوز وانتصار.
25
بطبيعة الحال، لم يكن تبجيل الأموات المجيدين مقتصرا على الجمهوريات أو القوميات المدنية؛ ففي أعقاب مذبحة الحرب الكبرى، شعر كثير من أبناء الشعب البريتوني أنهم في حاجة إلى نصب تذكاري دائم لقتلى الحرب، وحرصوا على أن يظل النصب التذكاري الذي صممه لاتيونز وشيد لموكب 1919 تكريما دائما لذكرى قتلى الحرب. على هذا النحو، يمكن أن تتضح الدلالة الرمزية للشخصية الشعبية لأمم بريطانيا ويعبر عنها على نحو مبجل من خلال المراسم السنوية ليوم إحياء الذكرى. ورغم ذلك، فقد سارت بريطانيا في هذا الصدد على خطى فرنسا وغيرها من الدول التي حملت راية القيادة، بعد أن أقرت الديمقراطية لاحقا في أمتها التي كانت هرمية وعهدية في السابق. إن النموذج الجمهوري المدني من القومية هو ما ساعد في خلق رموز ومراسم لإحياء ذكرى الوطنيين الذين قتلوا في الحروب من أجل الأمة الجمهورية، وكان أول من عبر عن شخصيتها الشعبية والعلمانية، ومن ثم خلق نوعا جديدا من الدين «العلماني» المناسب لمجتمع المواطنين المقدس، نوعا كان من الممكن تصديره إلى الأمم الجمهورية الأخرى المحتملة.
صفحة غير معروفة