تقدم الثقافات العامة القائمة على فكرة «العهد» تصورا أكثر مساواة للنظام الاجتماعي، وتقدم شكلا أكثر حميمية للشراكة المقدسة بين أعضاء المجتمع. في هذا التصور المرتبط في الأساس بالتقاليد التوحيدية، يختار الرب جماعة لتنفيذ مشيئته من خلال فصلها عن الآخرين ومطالبة أعضائها بأداء طقوس وواجبات معينة في مقابل فضله ونعمته. وعلى الرغم من اختلاف المهام، فإنها تتضمن عموما تنظيم حياة الأفراد في إطار قانون أخلاقي وروحاني يقدس المجتمع والعالم. ويوجد هنا أيضا أكثر من شكل للثقافة العامة القائمة على فكرة «العهد». ففي الحالات التي تتضمن هيكلا هرميا، يكون متلقي العهد كنيسة أو جماعة تتصرف نيابة عن المجتمع ككل. كان هذا هو الوضع في أرمينيا في القرن الرابع والقرن الخامس، حيث نفذت الكنيسة الرسولية الأرمينية «العهد» بين المسيح وشعبه، وهي علاقة دعمتها بقوة القرابة الوثيقة بين المؤسس التبشيري القديس جريجوري الأول، وسلالة أرساسيد الحاكمة، ومحاولات خلفاء جريجوري الساعية إلى الحفاظ على الوحدة بين أثرياء أرمينيا العظماء أصحاب الأراضي. ووفقا لما دونه المؤرخون الأرمن الأوائل أمثال إيليشي وبوستوس بوزاند، فقد كانت النسخة الأرمينية من «العهد» ملتزمة التزاما شديدا بنموذج العهد القديم ونموذج المكابيين في الاختيار العرقي واستشهاد الشعب من أجل الإيمان والوطن.
3
إلا أن العهد يمكن أن يوثق مباشرة مع عشيرة بأكملها. وكانت هذا هي الحال مع العهد الذي عقد بين الرب و«شعب» بني إسرائيل عند جبل سيناء. ربما قام موسى بدور الوسيط، لكن يقال إن الشعب كله شهد وجود الرب ووافق على مشيئته وعلى التوراة:
وأخذ (موسى) كتاب العهد وقرأ في مسامع الشعب، فقالوا: «كل ما تكلم به الرب نفعل ونسمع له». (سفر الخروج 24: 7)
كان الهدف من هذا العهد أن يصير بنو إسرائيل «مملكة كهنة وأمة مقدسة» (سفر الخروج 19: 6)، ولهذا السبب أبرم العهد مع شعب بني إسرائيل بأكمله، وشملت شريعته كل فرد. حتى في هذا العهد يظهر عنصر الهرمية ظهورا مبكرا؛ فبعد أن خان شعب بني إسرائيل الرب بعبادة العجل الذهبي، عين موسى هارون وذريته كبارا للكهنة، وكلف اللاويين بحراسة خيمة الاجتماع ومجموعة القواعد الخاصة بطريقة ممارسة الشعائر؛ وبذلك مهد الطريق لكهنة الهيكل.
4
تقدم إثيوبيا العصور الوسطى مثالا بالغ الوضوح عن الطرق التي من خلالها يمكن مزج مبدأ العهد مع الثقافة العامة الهرمية؛ فقد كانت الممالك والسلالات الإثيوبية الحاكمة المتعاقبة تمثل الثقافة العامة الهرمية لمملكة مسيحية تعتنق عقيدة الطبيعة الواحدة وتغلب عليها ثقافة التجرية العرقية. إلا أن قدوم سلالة «سليمانية» حاكمة جديدة تصطبغ بالهوية السامية في عام 1270 مثل نوعا من الانفصال عن هذا التقليد. فعلى الرغم من احتفاظها بمبدأ الهرمية وتقويتها له، حاكت في إطار سعيها لاكتساب الشرعية نموذج مملكة أكسوم المسيحية السابقة عنها بكثير، وتبنت في إطار بحثها عن «أسطورة ملهمة» أسطورة الخلافة السليمانية. وفقا لأسطورة السلالة، التي دونت لأول مرة في الملحمة القومية «كبرانجشت» (كتاب جلال الملوك) في القرن الرابع عشر، فإن منليك الأول، أول ملوك إثيوبيا، كان ابن ملكة سبأ والملك سليمان. بينما يذكر الكتاب المقدس (سفر الملوك الأول 10: 1-14) أن ملكة سبأ زارت سليمان لتسأله، وبعد أن اقتنعت بحكمته وثرائه، تعجبت وعادت إلى بلدها، فإن كتاب «كبرانجشت» يذكر أنها تنجب، منه، ولدا، وهو منليك الذي يعود بعد سنوات كثيرة إلى أورشليم رجلا راشدا، ويأخذ تابوت العهد الأصلي، وبمغادرته إلى إثيوبيا تنتقل أيضا نعمة الرب على إسرائيل إلى الشعب المختار الجديد وأرض إثيوبيا المختارة الجديدة. استخدم الملوك الأقوياء في السلالة الحاكمة الجديدة هذه الأسطورة من أجل توسيع حدود إثيوبيا وأيضا من أجل دعم مجموعة من الإصلاحات الثقافية والاجتماعية الكبرى؛ وبذلك يحدثون تطهيرا تاما للمجتمع الإثيوبي يتوافق مع العناصر اليهودية العهدية في عقيدة الطبيعة الواحدة المسيحية.
5
شكل 4-1: موسى يتلقى الألواح ويعلمها لبني إسرائيل، نسخة تورز من الكتاب المقدس، تعود إلى عام 834 بعد الميلاد (المكتبة البريطانية).
يرتبط ثالث الأشكال الرئيسية من الثقافة العامة، وهو الشكل «الجمهوري المدني»، ارتباطا وثيقا ب «الدول المدن» الإغريقية والدول المدن الرومانية التي خلفتها. للوهلة الأولى، يظهر هذا النوع تناقضا صارخا مع كل من النوع الهرمي والنوع العهدي؛ لأن فكرة المجتمع الذاتي الحكم، مهما كان حق التصويت فيه حصريا، وفكرة النظام المستقل الذي لا يخضع لمساءلة أي قوة خارجية، مثلتا مرحلة جديدة من مراحل تطور المجتمع السياسي الجمعي. إلا أن هذا النوع كان متناقضا من نواح كثيرة؛ فمن ناحية، كان مواطنو المجتمع مرتبطين بعقد مدني، وليس بعهد مع الرب، وكانت عقيدتهم هي الحرية في ظل قانون مدني، وليس بتزكية النفس النابعة من السعي إلى القداسة، فضلا عن الإذعان لنظام سلالي مقدس. وانبثقت من هذا العقد واجبات مدنية ومسئوليات عامة قائمة على قوانين مزعوم أنها متوارثة عن المؤسسين والمشرعين القدماء أمثال ليكرجوس، وصولون، ونوما بومبيليوس. في الديمقراطيات الكلاسيكية بصفة خاصة، حلت مبادئ الحرية المدنية والمساواة القانونية محل التراتبيات الهرمية الأرستقراطية، وحلت الإقامة والسلف العرقي محل المولد النبيل كمعايير للمواطنة واعتلاء المناصب. من ناحية أخرى، كان أيضا الشكل الجمهوري شكلا من المجتمعات المقدسة قائما على الدين المدني؛ فقد كان لكل دولة من الدول المدن آلهة حامية وأساطير أصل مقدس خاصة بها، وكانت كل منها تفتخر بطقوسها ومراسمها الخاصة، مثل مهرجان عموم أثينا في أثينا القديمة أو الألعاب البرزخية في كورينث. وكما رأينا، كانت المعابد، والتماثيل، وعبادة آلهة المدن، محورية في التعريف الذاتي للإغريق والرومان، وكذلك لحضارة العالم اليوناني الروماني الذي اكتنفهما، وكانت أقسامهم العمومية تتخذ صياغة دينية، وتشهد عليها آلهة المدينة.
صفحة غير معروفة