أصول مسائل العقيدة عند السلف وعند المبتدعة
الناشر
*
رقم الإصدار
١٤٢٠هـ
سنة النشر
١٤٢١هـ
تصانيف
المجلد الأول
سمات وقواعد منهج السلف في العقيدة
مدخل
...
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيآت أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وبعد:
فإن عقيدة السلف تتميز عن غيرها من العقائد المخالفة لها بانتمائها في دقيق المسائل وجليلها إلى الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتتميز بأنها تجمع المسلمين ولا تفرقهم كما أنها لا تختلف فيها الأهواء ولا يتنازعها أصحاب الآراء لأنه لا مجال للعقل ولا للهوى لمخالفتها لتميزها بالتسليم لمدلول النصوص والوقوف عند حدودها، فما أدركه وفهمه المسلم حمد الله عليه وما لم يدركه يكل علمه إلى عالمه ويقول ﴿كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ .
سمات وقواعد منهج السلف في العقيدة:-
قبل الشروع في بيان السمات والقواعد لمنهج السلف في العقيدة نبين المراد بمفردات العنوان:
السمات: جمع سمة وهي العلامة المميزة، والمراد هنا علامات ومميزات.
والقواعد: جمع قاعدة وهي من البناء أساسه، وهي أيضا الضابط أو الأمر الكلي ينطبق على جزئيات١.
_________
١ المعجم الوسيط ٢/٧٤٨.
1 / 2
والمنهج: هو الطريق الواضح١.
والسلف: جمع سالف وهو كل من تقدمك من آبائك وذوي قرابتك في السن أو الفضل٢.
والمراد هنا بالسلف أصحاب النبي ﷺ ثم التابعين لهم بإحسان ومن تبعهم من أئمة الدين وأعلام الهدى بخلاف من رمي ببدعة من الخوارج والروافض أو الجهمية أو المعتزلة ونحوهم٣.
والعقيدة: من عقد قلبه على الشيء ولزمه٤.
والمراد بالعقيدة في الاصطلاح: هي الأمور التي يجب على المسلم اعتقادها بقلبه مما يتعلق بالله ﷿ وأركان الإيمان الأخرى ومسائل تلحق بذلك مثل مسائل الإيمان والخلافة ونحوها.
أما قواعد السلف وسمات منهجهم في تقرير مسائل العقيدة فيمكن استخلاصها من كلام الأئمة المتقدمين. قال الأجري ﵀ في كتابه الشريعة: "باب الحث على التمسك بكتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ وسنة أصحابه ﵃ وترك البدع وترك النظر والجدال فيما يخالف فيه الكتاب والسنة وقول الصحابة ﵃"٥ ونحوه قال ابن بطة في الإبانة٦.
_________
١ المعجم الوسيط ١/٩٥٧.
٢ القاموس المحيط ص ١٠٦٠.
٣ لوامع الأنوار البهية ١/٢٠.
٤ لسان العرب ٤/٣٠٣٢.
٥ الشريعة ١/١٧٠.
٦ الإبانة الصغرى ص: ١٠٢.
1 / 3
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: "ثم من طريقة أهل السنة والجماعة اتباع آثار الرسول ﷺ باطنا وظاهرا واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار واتباع وصية رسول الله ﷺ حيث قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة" ١ ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، ويؤثرون كلام الله على غيره من كلام أصناف الناس، ويقدمون هدي محمد ﷺ على هدي كل أحد"٢.
فهذه الأصول ظاهرة واضحة في كل كتاب من كتب عقيدة السلف، وبعضهم ينص عليها ثم يفصل في مفردات مسائل عقيدة السلف والبعض يبدأ يذكر مفردات العقيدة لكن وفق القواعد المتفق عليها بينهم وهي:
١ الاعتماد على الكتاب والسنة في أصول المسائل وتفريعاتها.
٢ اتباع سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان.
٣ عدم عرض شيء من ذلك على الآراء والأهواء.
الحذر من البدع وأهلها.
وسنذكر هذه القواعد بأدلتها حتى يتبين أن السلف ﵏ إنما يعتمدون في سائر الأمور الدينية على كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ، وهو الحق الذي لا تشوبه شائبة،وهو ما يجب على كل مسلم التزامه وطرح ما سواه.
_________
١ أخرجه أبو داود في السنة ٤/٢٠١، باب لزوم السنة.
٢ العقيدة الواسطية ص: ٢٨.
1 / 4
القاعدة الأولى: الاعتماد على الكتاب والسنة في أصول المسائل وتفريعاتها
هذه القاعدة تعني أنه يجب على المسلم أن يربط عقيدته وسائر أمور دينه بكلام الله ﷿ وكلام رسوله ﷺ. فيكون مصدره في كل ذلك القرآن والسنة لأنهما مصدر الدين، فما كان فيهما فهو الدين وما ليس فيهما فهو ليس من الدين عظم شأنه أو حقر، كما أن العقيدة جلها أمور غيبية لا يستقل العقل بمعرفتها وإدراكها، فوجب الرجوع في ذلك إلى خبر العليم الحكيم وإلى خبر من لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، والوقوف عند ذلك وعدم تجاوزه إلى غيره.
وقد أمر الله ﷿ بالتزام كتابه فقال عز من قائل: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [البقرة ٤، ٥] . وقال تعالى: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام١٩] .
وقال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء٩] وقال تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف٣] . وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا، وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [الأحزاب ١-٢] وغيرها كثير.
أما الأدلة الموجبة للالتزام بالسنة فكثيرة، منها قول الله ﷿: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران٣١]، وقوله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور٦٣]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ
1 / 5
وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال٢٤]، وقال تعالى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء٦٥، وقال تعالى: ﴿وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا﴾ [الحشر٧]، وقال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب٢١] .
أما الأحاديث عن النبي ﷺ فكثيرة منها:
حديث أبي هريرة ﵁ أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم" ١.
وحديث العرباض بن سارية قال: "وعظنا رسول الله ﷺ موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، قلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا "وفي رواية: فما تعهد إلينا" قال: "قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها ولا يزيغ عنها بعدي إلا هالك " وفي رواية: "أوصيكم بتقوى الله والطاعة والسمع وإن كان عبدا حبشيّا، فإنه من يعش منكم بعدي سيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" ٢.
وحديث جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ كان يقول في خطبته: "نحمد الله بما هو أهله"، ثم يقول: "من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، أصدق الحديث كتاب الله ﷿، وأحسن الهدي هدي محمد ﷺ، وشر
_________
١ رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب الانتهاء عما نهى عنه النبي ﷺ.
٢ أخرجه الآجري في الشريعة ١/١٧١، كما أخرجه حم ٤/١٢٦،١٢٧، والترمذي رقم ٢٦٧٨ وقال: حسن صحيح.
1 / 6
الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار" ١.
وهنا يحسن التنبيه على أمرين:
أحدهما: أن الكتاب والسنة حويا أصول الدين وفروعه.
من المعلوم أن علماء الأمة يلتزمون في مسائل الفقه كلها بالنصوص الشرعية ويجعلون أدلة الأحكام الكتاب ثم السنة ثم الإجماع ثم القياس. ولكن الذين وقعوا في الكلام المذموم أو البدع والأهواء إذا أتوا على باب الاعتقاد أعرضوا عن الكتاب والسنة، مع أن مسائل الاعتقاد من الغيب الذي لا يمكن أن تستقل العقول بمعرفتها، كما أننا نجد أن الله ﷿ قد علمنا فيه بأخبار الأولين بل ذكر لنا فيه ما يتعلق ببعض الحشرات كالنحل في قوله ﷿: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ﴾ [النحل٦٨، ٦٩] .
كما ذكر النمل والطير والدواب، بل ذكر جل وعلا دقائق مما يتعلق بالإنسان من ناحية خلقه في بطن أمه وتكوينه. فكيف يمكن مع هذا أن لا يعرف القرآن به جل وعلا من ناحية صفاته وأسمائه ومن ناحية أفعاله، هذا لا يمكن أن يكون مع قوله ﷿: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام ٣٨] .
مع أن الوحي لم ينزل والرسل لم ترسل إلا لتعريف الخلق بربهم جل وعلا وحقوقه وجزائه للمطيعين والعاصين قال عزمن قائل: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق١٢]،بل أول أية من القرآن نزلت تضمنت التعريف بالله ﷿ قال تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ
_________
١ الآجري في الشريعة ١/١٧٠ ومسلم حديث رقم ٨٦٧.
1 / 7
خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق١-٥] .
وكذلك رسوله ﷺ لايمكن أن يكون علمنا آداب قضاء الحاجة وآداب الأكل والشرب والجماع وعلاقة الإنسان بوالديه وإخوانه وأهله ثم يغفل المعلومات المعرفة لنا بربنا جل وعلا من ناحية صفاته وأسمائه وأفعاله. إن من يدعي هذا أو يظنه فقد طعن في الرسول ﷺ ونسبه إلى التقصير في أهم واجباته التي لا يمكن أن تعرف إلا عن طريقه ﵊ وحاشاه من ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: "فمن المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور،وأنزل معه الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأمر الناس أن يردوا ما تنازعوا فيه من أمر دينهم إلى ما بعث به من الكتاب والحكمة ... فمحال مع هذا وغيره أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله، والعلم به ملتبسا مشتبها، ولم يميز بين ما يجب لله من الأسماء الحسنى والصفات العليا وما يجوز عليه وما يمتنع عليه، فإن معرفة هذا أصل الدين وأساس الهداية وأفضل وأوجب ما اكتسبته القلوب، وحصلته النفوس وأدركته العقول. فكيف يكون ذلك الكتاب وذلك الرسول وأفضل خلق الله بعد النبيين لم يحكموا هذا الباب اعتقادا وقولا ... ومحال مع تعليمهم كل شيء لهم فيه منفعة في الدين – وإن دقت – أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم ويعتقدونه في قلوبهم في ربهم ومعبودهم رب العالمين الذي معرفته غاية المعارف،وعبادته أشرف المقاصد والوصول إليه غاية المطالب، بل هذا خلاصة الدعوة النبوية وزبدة الرسالة الإلهية، فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة أن لا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول على غاية التمام "١.
_________
١ الفتاوى: ٥/٦-٧.
1 / 8
ثانيهما: عدم معارضة القرآن والسنة بعضها ببعض.
القرآن الكريم وحي الله وكلامه جل وعلا، وهو أنزل على نبينا محمد ﷺ هداية للناس ونورا فلا يمكن أن يكون فيه ما هو متعارض أو متناقض، فهو تنزيل الحكيم العليم، قال ﷿: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ [النساء٨٢.
فمن أدرك ما فيه من المعاني حمد الله على ذلك ومن لم يستطع فهم شيء منه فليتهم نظره وليقف حيث فهم وعلم ولا يتكلف ما لا علم له به. قال تعالى: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا﴾ [الإسراء٣٦] .
وإذا كان القرآن وحيا من عند الله فكذلك السنة من وحي الله ﷿، قال جل وعلا: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم٣، ٤] . فلا تعارض بينهما ولا تناقض فإن السنة تفسر القرآن وتشرحه كما قال جل وعلا: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل٤٤] .
ومن زعم أن بين السنة والقرآن تعارضًا فقد ضل وأخطأ، من زعم أنه يأخذ بالقرآن دون السنة فقد ضل ضلالا مبينا. وقد روى الإمام أحمد عن المقدام بن معد يكرب عن النبي ﷺ أنه قال: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل ينثني شبعانا على أريكته يقول عليكم بالقرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه" ١.
وروى الآجري عن عمران بن الحصين ﵁ أنه قال لرجل: "إنك امرؤ أحمق أتجد في كتاب الله تعالى الظهر أربعا لا تجهر بها في القراءة"، ثم عدد عليه الصلاة والزكاة ثم قال: "أتجد هذا في كتاب الله تعالى مفسرا؟ إن كتاب الله أحكم
_________
١ رواه أحمد ٤/١٣١.
1 / 9
ذلك وإن السنة تفسر ذلك"١.
وروي عن سعيد بن جبير ﵀ أنه حدث عن النبي ﷺ حديثًا فقال رجل: إن الله تعالى قال في كتابه كذا وكذا فقال: "ألا أراك تعارض حديث رسول الله ﷺ بكتاب الله تعالى، رسول الله ﷺ أعلم بكتاب الله تعالى" ٢.
_________
١ الآجري في الشريعة ١/١٧٨.
٢ الآجري في الشريعة ١/١٨٠.
1 / 10
القاعدة الثانية: اتباع سلف الأمة من الصحابة والتابعين والذين اتبعوهم بإحسان
والمراد بهم العلماء والأئمة الذين سلكوا نهج الصحابة ولم يبتدعوا في دينهم. فقد دلت الأدلة أيضا على وجوب التزام طريقتهم ونهجهم. قال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة١٠٠] .
وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء١١٥] .
فهذه الآيات فيها الدلالة الواضحة على اقتفاء أثر الصحابة إذ هم أعدل هذه الأمة وأفضلها وأعلمها بدين الله، ثم من سلك نهجهم من أئمة الإسلام وأعلام الهدى.
أما الأحاديث الدالة على سلوك منهجهم فكثيرة، فمن ذلك حديث العرباض السابق وجاء فيه: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي". فقد أخبر رسول الله ﷺ في هذا الحديث بوقوع الاختلاف، وأمر عند الاختلاف بلزوم منهج خلفائه الراشدين. ولا شك أن الخلفاء الراشدين هم أفضل الأمة بعد نبيها ﵇. ثم يدخل فيهم غيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم لورود الإشارة على لزوم منهجهم وطريقتهم عموما في الآيات السابقة ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النساء١١٥]، ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ﴾ [التوبة١٠٠] .
وكذلك حديث افتراق الأمة، وجاء فيه من رواية عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ: "ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل: تفرق بنو إسرائيل على اثنين
1 / 11
وسبعين ملة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين تزيد عليهم كلها في النار إلا ملة واحدة"، فقالوا: من هذه الملة الواحدة؟ قال: "ما أنا عليها وأصحابي"، وفي رواية "ما أنا عليه اليوم وأصحابي" وفي رواية" الجماعة "وفي رواية "إلا السواد الأعظم" ١.
فهذا النص يدل على أن المخرج عند الاختلاف هو في لزوم منهج الصحابة أو الجماعة ولا شك أن الصحابة هم رأس الجماعة.
وهذا بحمد الله ظاهر، إذ أن القرآن والسنة قد تعرضا في آخر زمن الصحابة ﵃ بعدهم لفهوم كثيرة وبعض تلك الفهوم كان نابعا من الهوى، أو التأثر بالأفكار الواردة من اليهود والنصارى والوثنيين من الفلاسفة ونحوهم. فالقرآن موجود والسنة موجودة، لكن الإشكال عند كثير من الناس أتى من فهم مدلول النصوص فمثلا: آيات الصفات وأحاديثها موجودة، فدخلت على المسلمين فهوم خارجية وهو اعتقاد أن الله لا يوصف بصفة ثبوتية، أو أن التنزيه يعني نفي جميع الصفات عن الله ﷿. فهنا آيات فهمت بفهوم مختلفة متباينة، فنظرنا في فهم الصحابة فوجدنا أن الصحابة ﵃ لم يختلفوا في إثبات شيء من الصفات الواردة في القرآن والسنة، فالتزم ذلك التابعون لهم بإحسان، وصرحوا عنه وأبانوه ودانوا الله به في مقابل الذين جاءوا بكلام في هذا الباب خارج عن منهج الصحابة وطريقتهم وإنما هو على منهج الفلاسفة واليهود والنصارى وغيرهم.
وهكذا سائر المسائل العقدية التي ابتدعها أهل البدع، وخالفوا فيها منهج الصحابة والتابعين لهم بإحسان. فخالفوا بذلك أمر الله ﷿ وأمر رسوله ﷺ في لزوم منهج الصحابة وطريقتهم عند الاختلاف.
كما قد جاء الحض على التزام منهج الصحابة رضوان الله عليهم عن العديد من العلماء والأئمة ومن ذلك:
_________
١ أخرجها الآجري في الشريعة ١/١٢٧ وهي مخرجة في السنن عند الترمذي وأبي داود وغيرهم.
1 / 12
ما روي عن عبد الله بن مسعود ﵁ قال: "من كان مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد ﷺ أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وفضلهم فقد كانوا على الهدى المستقيم".١
وقال ﵁ هو أو حذيفة أيضا: "يا معشر القراء اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم".٢
وقال عمر بن عبد العزيز كما روى مالك عنه بأنه إذا ذكر عنده الزائغون في الدين قال، قال عمر بن عبد العزيز: "سن رسول الله ﷺ وولاة الأمر من بعده سننا، الأخذ بها اتباع لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله تعالى وقوة على دين الله، ليس لأحد من الخلق تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفها، من اهتدى بها فهو المهتدي، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا ".
وقال أبو العالية: "عليكم بالصراط المستقيم ولا تحرفوا الصراط يمينا ولا شمالا، وعليكم بسنة نبيكم ﷺ والذي عليها أصحابه ... " ثم قال: "وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة". قال الحسن البصري لما بلغه: "صدق ونصح"٣.
_________
١ انظر: جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ٢/٩٧ وروي نحوه أيضًا عن الحسن البصري.
٢ انظر: الإبانة الصغرى ١٣٦، الإبانة الكبرى ١/٣٣٦.
٣ الآجري في الشريعة ١/١٢٤.
1 / 13
القاعدة الثالثة: عدم عرض شيء من ذلك على الآراء والأهواء
ما جاء عن الله ﷿ أو عن رسوله ﷺ فهو حق لا شك فيه، والواجب فيه الإيمان والتسليم وهذا هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله ﷺ. فلا يقوم الإيمان الصحيح الصادق إلا بالتسليم للشارع والانقياد له في الأمور العقائدية العلمية والأمور العملية، قال تعالى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء٦٥]، وقال: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام١٥٣] .
وروى الآجري وغيره عن عبد الله بن مسعود ﵁ أن النبي ﷺ قرأ هذه الآية: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ فخط خطا فقال: "هذا الصراط"، ثم خط حوله خططا فقال: "وهذه السبل فما منها من سبيل إلا وعليه شيطان يدعو إليه" ١.
وحديث العرباض بن سارية السابق وهو قوله ﷺ: "وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" ٢. وكذلك حديث جابر وفيه "وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار".٣
وروى الآجري عن عمر ﵁ قال: "القرآن كلام الله فلا تصرفوه
_________
١ المسند ١/٤٣٥.
٢ سبق تخريجه ص٦.
٣ سبق تخريجه ص٦.
1 / 14
على آرائكم" ١. وفي رواية أخرى قال: "إن هذا القرآن كلام الله فلا أعرفن ما عطفتموه على أهوائكم" ٢. وقال محققه: إنه حسن.
وقال عمر بن عبد العزيز ﵀: "إنه لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله ﷺ" ٣.
وقال رجل لإبراهيم بن يزيد النخعي: "يا أبا عمران أي هذه الأهواء أعجب إليك؟ فإني أحب أن آخذ برأيك وأقتدي بك"، قال: "ما جعل الله في شيء منها مثقال ذرة من خير وما هي إلا زينة الشيطان، وما الأمر إلا الأمر الأول" ٤.
وقال الأوزاعي ﵀: "عليك بأثار من سلف وإن رفضك الناس وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوا لك القول" ٥.
فهذه النصوص وغيرها كثير فيه دلالة واضحة على عدم عرض القرآن أو السنة على شيء من الأهواء والآراء، وإنما الواجب التسليم والإيمان. على هذا درج الأئمة، فأنت لا ترى مسألة في العقائد إلا ويرجعونها إلى أصولها من الكتاب والسنة وكلام الصحابة والأئمة.
والواقع أن جمهور المسلمين يرجعون إلى ذلك في الفقه، ويتميز السلف برجوعهم إلى ذلك في العقائد والأحكام لا يفرقون بين ذلك، ولكن أهل البدع يفرقون بينهما وذلك لدخول الأهواء عليهم في باب العقائد.
_________
١ الشريعة للآجري ١/٢١٦.
٢ الشريعة ١/٢١٦.
٣ الشريعة ١/١٨٢.
٤ الشريعة ١/١٩٢.
٥ الشريعة ١/١٩٣.
1 / 15
القاعدة الرابعة: الحذر من البدع وأهلها
البدعة في اللغة: هي الشيء المخترع على غير مثال سابق.
وهي في الشرع كما عرفها بعض العلماء: طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى ١.
والبدع قد حذرنا الله ﷿ منها وحذرنا منهارسوله ﷺ، فمن الآيات في ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ [الأنعام١٥٩] . وقال: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا﴾ ... إلى قوله – ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ [آل عمران١٠٣ - ١٠٦] . وقوله: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام١٥٣] .
ومن الأحاديث الدالة على تحريم البدع الحديث المشهور حديث عائشة ﵁ قالت: قال رسول الله ﷺ: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" ٢، وكذلك حديث عبد الله بن مسعود في تفسير النبي ﷺ لقول الله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا﴾ ٣ وحديث العرباض بن سارية، وحديث جابر بن عبد
_________
١ الاعتصام ١/٣٧.
٢ أخرجه البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود ٥/٣٥٥.
٣ سبق تخريجه ص ١٣
1 / 16
الله وفيه: "وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة". ١
كما كثر عن الأئمة من علماء السلف التحذير من البدع، فمن ذلك:
ما روي عن عبد الله بن مسعود ﵁ أنه قال لما رأى جماعة في المسجد متحلقين وبين أيديهم حصى ورجل يقول: هللوا مائة فيهللون، ويقول: سبحوا مائة فيسبحون، فقال لهم ﵁: "والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد ﷺ أو مفتتحوا باب ضلالة".٢
وعن ابن عباس ﵁ أنه قال: "أبغض الأمور إلى الله تعالى البدع، وإن من البدع الاعتكاف في المساجد التي في الدور.٣
وروي عن حذيفة أنه قال: "اتقوا الله يا معشر القراء وخذوا طريق من كان قبلكم، فلعمري لئن اتبعتموه فقد سبقتم سبقًا بعيدًا، ولئن تركتموه يمينًا وشمالًا لقد ضللتم ضلالًا بعيدًا".٤
وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول: "أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره واتباع سنة نبيه ﷺ وترك ما أحدث المحدثون بعدما جرت به سنته"٥
ومن نظر في البدع علم أنها من أقبح الأعمال وأفسدها وأشدها خطرًا على دين المرء، لما تتضمن من المعاني الفاسدة التي منها:
١ - أن الله تعالى قد أكمل الدين وأتم النعمة، فمن ابتدع بدعة فقد زعم أن الله تعالى لم يكمل الدين وانه ناقص وأنه يحتاج إلى بدعة المبتدع لتكميله
قال الإمام مالك ﵀: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد
زعم أن محمدًا ﷺ خان الرسالة، لأن الله يقول ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
_________
١ سبق تخريجه ص٦.
٢ سنن الدارمي ١/٦٨. باب كراهية أخذ الرأي.
٣ سنن البيهقي ٤/٣١٦، باب الاعتكاف في المسجد.
٤ جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ٢/٩٧.
٥ الشريعة ١/١٧٤.
1 / 17
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا﴾ [المائدة٣] ١.
٢ - أن المبتدع مستدرك على الشارع ببدعته، فكأنه يرى أن ثمة طرق أخرى موصلة للحق لم يذكرها الشارع.
قال ابن مسعود ﵁ لمن كانوا متحلقين يسبحون: "والذي نفسي بيده إنكم على ملة هي أهدى من ملة محمد ﷺ أو مفتتحوا باب ضلالة".٢
قال عمر بن عبد العزيز: "فعليك بلزوم السنة فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق".٣
٣ - أن التشريع حق الله تعالى وحده، والمبتدع قد أنزل نفسه منزلة المشرع، وذلك بتشريعه شريعة لم يشرعها الله تعالى ولا رسوله ﷺ، وفي هذا تشبه بالمشركين قال تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الشورى ٢١] .
كما أن من منهج السلف البعد عن أهل البدع والحذر منهم وعدم مجالستهم ومجادلتهم. يدل على ذلك ما روى الآجري بسنده عن ابن عباس ﵁ قال:
"لا تجالس أهل الأهواء فإن مجالستهم ممرضة للقلوب"٤.
وعن أبي قلابة ٥ ﵀ قال: "لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإنني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم بعض ما لبس عليهم"٦.
فتجنب أهل البدع والحذر منهم منهج سلفي لما لهم من الخطورة على أغلى ما
_________
١ نقلها الشاطبي في الاعتصام ١/٤٩، ٢/١٨ وعزاها إلى ابن حبيب عن ابن الماجشون عن مالك وانظر: منهج الإمام مالك في إثبات العقيدة ص ٩٩.
٢ سبق تخريجه ص ١٦.
٣ الشريعة للآجري ١/٤٤٤.
٤ الشريعة ١/١٩٦، وابن بطة في الإبانة ٢/٤٣٨.
٥ أبو قلابة، عبد الله بن زيد بن عمرو أو عامر، البصري، ثقة فاضل. مات بالشام هاربًا من القضاء سنة أربع ومائة وقيل بعدها. انظر: التقريب ١/٤١٧.
٦ شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي ١/٣٤.
1 / 18
يملكه المسلم وهو دينه، كما أن فيه تصغيرا لشأنهم وتحقيرا لهم وهذا فيه مصالح منها:
١ - لعلهم يرتدعون عما هم فيه من غواية وضلالة.
٢ - يعرفهم الناس الذين يجهلون حالهم فيحذرونهم ويتجنبونهم.
٣ - في الحذر منهم وعدم مجادلتهم تحجيم لبدعتهم وعدم إظهارها وانتشارها.
1 / 19
منهج المبتدعة في العقيدة
أولا: المتكلمون
...
منهج المبتدعة في العقيدة
المبتدعة خالفوا السلف وانحرفوا عنهم في العقيدة وما ذلك إلا لمخالفتهم لهم في المنهج الذي اعتمدوه في تقرير العقيدة.
ويمكن تلخيص منهج المبتدعة عموما في أصل واحد وهو: تقديم الآراء والأهواء والكشف ونحو ذلك على النقل والشرع في تقرير مسائل العقيدة. بيان ذلك:
أن المبتدعة بسبب اختلاف مشاربهم ومقاصدهم ولما لم يأتلفوا على كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ صاروا أقوالا شتى متفرقة قد يجمعها بعض الأصول كما يجمع المتكلمين بعض الأصول ولكنهم يتفرقون كثيرا عند التفريعات.
وهكذا سائر المبتدعة من الخوارج والرافضة والصوفية لأن الأصول التي يلتقون عليها تصطدم دائما بالمقاصد والأهواء، فيتفرقون وينقسمون بسبب ذلك انقسامات داخلية وانشطارات متعددة تجعل الفرقة الواحدة لها مسمى واحد كبير لكنه يضم تحت مسماه فرقًا كثيرة متناحرة مختلفة.
وسنذكر منهج بعض المخالفين ونبين بطلانه.
أولا: المتكلمون
المتكلمون هم الذين يقررون مسائل العقيدة أو بعضها عن طريق الأدلة العقلية ومنهجهم في ذلك هو: تقديم العقل على النقل.
فتقديم العقل على النقل سمة ومنهج واضح ظاهر لدى الفلاسفة والمتكلمين، سواء كانوا جهمية أو معتزلة أو أشعرية أو ماتريدية، فكل هؤلاء في أبواب ضلالهم وانحرافهم عن الحق قدموا العقل على النقل بل كثير منهم لا يعتبر إمكانية الوصول إلى الحق إلا عن طريق العقل.
1 / 20
ومن الأمثلة على ذلك قول القاضي عبد الجبار المعتزلي في كتابه "شرح الأصول الخمسة" ص ٨٨: "الدلالة أربعة: حجة العقل والكتاب والسنة والإجماع، ومعرفة الله لا تنال إلا بحجة العقل".
وقال الآيجي في المواقف وهو من الأشاعرة: "ما يتوقف عليه النقل مثل وجود الصانع ونبوة النبي محمد ﷺ فهذا لا يثبت إلا بالعقل ... ثم قال: الدلائل النقلية هل تفيد اليقين؟ قيل لا. ثم قال بعد أن ذكر أن الدليل النقلي أي الشرعي يفيد الظن قال: لا بد من العلم بعدم المعارض العقلي، إذ لو وجد لقدم على الدليل النقلي قطعا"١.
وقال الجويني الأشعري: "إنه إذا ورد الدليل السمعي مخالفا لقضية العقل فهو مردود قطعا: "٢.
وقال الرازي وهو أشعري: "اعلم أن الدلائل القطعية العقلية إذا قامت على ثبوت شيء ثم وجدنا أدلة نقلية يشعر ظاهرها بخلاف ذلك ... يقطع بمقتضى الدلائل العقلية القاطعة بأن هذه الدلائل النقلية إما أن يقال إنها غير صحيحة أو يقال إنها صحيحة إلا أن المراد منها غير ظواهرها" ٣.
فهذا شأن أهل البدع من المتكلمين والفلاسفة تقديم العقل على النقل واعتبار العقل الأصل والشرع فرع له، لهذا عند التعارض لا يقيمون للنقل والشرع وزنا.
دليلهم:
المتكلمون عمومًا قدموا العقل على النقل بدون أن يكون لهم أدنى دليل شرعي أو حتى دليل عقلي إنما قعدوا قاعدة فقالوا: إن العقل هو أصل الشرع
_________
١ المواقف ص: ٤٠١٢٩.
٢ الإرشاد، ص: ٣٥٩-٣٦٠.
٣ أساس التقديس ص:٢١٠.
1 / 21