لكن قد عرفت أن هذا المعنى المتعلق لا ربط له بحقيقة معنى «من» وله دال أخر فكل من الدوال قد استعمل في معناه الموضوع له ، فمادة سرت قد استعملت في مفهوم السير وهيئته في الاتحاد الخارجي ولفظة «من» في مطلق المبدئية العاجزة ، والخصوصية إنما حصلت من تركب هذه المعاني ، كما أن لفظ «الرقبة» في قولك : رقبة مؤمنة قد استعملت في مطلق الرقبة ، والمؤمنة في مطلق المؤمنة ، والخصوصية إنما حصلت من انضمامها.
فإن قلت : موضوعية الجامع المحكي لمفهوم الابتداء المحتاج في التعقل إلى المتعلق هو موضوعية الفرد الخاص الموجود في قولك : «سرت من البصرة» على أن يكون القيد خارجا والتقيد داخلا لصدق ذلك العنوان عليه واتحاده معه.
قلت : حكم الموضوعية لا تسرى من الجامع إلى أفراده ، ألا ترى أن مفهوم الحيوان الناطق موضوع له للفظ الإنسان مع عدم كون أفراده كذلك.
فإن قلت : إن التبادر يقضى بأن معنى «من» هو خصوصيات الابتداء.
قلت : من المعلوم بالوجدان أن معنى «من» لا يتفاوت بتفاوت التراكيب ، وأنه معنى كلى ، وإن كنت شاكا في ذلك فاخبرنى عن كلمة «من» فى قولك : «من البصرة سرت» قبل التلفظ بلفظ «البصرة» هل تفيد معنى عند العرف أو لا؟ وإن أفاد فهل هو إلا مطلق المبدئية العاجزة الناقصة؟
الشبهة الثانية : إنه لا شك أن المعاني الحرفية آلات للحاظ حال متعلقاتها ولازم ذلك كونها مقيدة باللحاظ ، وهو الوجود الذهني ومأخوذيته في حقيقتها ، والماهية إذا أخذت مع الوجود ذهنيا كان أو خارجيا تصير جزئيا حقيقيا فمعنى «من» مثلا على هذا يتعدد بتعدد اللحاظ ، ولو كان متعلقه فيهما شيئا واحدا ضرورة تعدد المقيد بما هو مقيد بتعدد قيده.
صفحة ١٢