الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين
صفحة ٢
المقدمة
البحث الذي بين أيدينا يمثل الجزء الأول من عرض لأصول دين الإسلام(1). هذا الجزء سيضم مبحث معرفة صفات الله تبارك وتعالى بالقدر الممكن. وهذا الجزء يعد الأساس للجزء الثاني، الذي سيتعرض للمباحث المتعلقة بالنبوة والإمامة، والأسماء والأحكام، واليوم الآخر وما يتعلق بها من فروع؛ كما إنه الأهم لأنه يتناول معرفة صفات الله تعالى وهو أهم موضوع معرفي على الاطلاق.
صفحة ٣
والعرض الذي سأقدمه بحول الله تعالى في الجزأين يعد عرضا أوليا لأصول الدين، ولكنه ليس أوليا بمعنى أنه يعرض بعض المسائل الأصولية فحسب دون غيرها(2) إنما هو أولي بمعنى أنه يهدف إلى عرض جميع المسائل الأصولية التي يجب معرفتها، من دون الخوض المفصل في الأدلة والبراهين، وفي الأقوال والردود عليها. فلم أسع إلى التمييز بين المسائل نفسها بجعل بعضها للمستوى الأول من عرض الأصول، والبعض الآخر للمستوى الثاني والآخر للمستوى الثالث ونحو ذلك، بل سعيت إلى عرضها جميعا بحيث تكون عناصر المستوى الأول هي عينها عناصر المستوى الثاني(1)، ويكون الفرق بين المستويين هو فقط في نوع وكم الأدلة المذكورة من جهة، ومن جهة أخرى في ذكر الأقوال المخالفة من شبهات أو اختلافات، والرد عليها أو التعليق بما هو مناسب.
ذلك أن الهدف من هذا العرض هو تعريف المسلم المثقف بالقضايا الأصولية، وبيان الرأي المختار فيها، مع الدليل المختصر ليكون على بينة من أمره فيما يخص علاقته بالله جل جلاله، وليس مناسبا، والهدف هذا، أن تختصر القضايا التي يتم عرضها، بل ينبغي لذلك وضع مرجع صغير في حجمه، شامل في موضوعاته، وافيا في بيانه. وهذا ما سعيت إليه؛ فأسأله تعالى أن أكون قد حققت بعض هذا الهدف في هذه الصفحات. فإن كان ذلك، فهو بما سهل الله وأيد بألطافه التي لا تحصى، وإن لم يكن ذلك فهو بما فرطت في حقه تعالى، وبما قصرت في البحث والتدقيق، والله هو المرجو أولا وآخرا لقبول هذا العمل.
صفحة ٤
وقد تعمدت كما سيلاحظ القارئ إلى أن أتوسع في إيراد الآيات المتشابهة(1)، وبيان التفسير الصحيح لها، ولم اكتف بذكر بعضها فحسب، تاركا البعض الآخر لنباهة القارئ وفهمه، أو لهمته في تحصيل معاني ما بقي، أو لإعماله ما قيل فيما لم يقل. فكثير من الكتب ربما لم تتوسع في إيراد الآيات المتشابهة من باب أن الاعتقاد الصحيح قد وضح؛ وأن بيان بعض الآيات المتشابهة التي يجب أن لا يساء فهمها قد تم؛ وأن كاتبها قد أمن على القارئ من فهم بعض الآيات الأخرى فهما خاطئا؛ من حيث أنه أمن عليه من العقائد الخاطئة كعقيدة الجبر والتشبيه؛ فإذا رأى القارئ آية توهم أحد هذين المعنيين وقد علم أنهما لا يليقان بالله تعالى، وقد علم أن في القرآن متشابها فلن يسيء فهم الآية، حتى وإن لم يعرف التأويل الصحيح لها. فإذا أراد القارئ معرفة التأويل الصحيح فعليه البحث بنفسه في كتب التفسير. ولكن بما أن الغرض هنا هو طرح جميع المسائل الأصولية، فلا بد من ذكر جميع الآيات المرتبطة بالعقيدة ارتباطا مباشرا؛ والله حسبي ونعم الوكيل.
وقد كان أمامي في بيان الآيات طريقان:
الطريق الأول: أن أذكر الآية المتشابهة مع المسألة التي تتعلق بها؛ فأذكر آيات الرؤية في باب نفي الرؤية، وآيات الضلال في باب نفي فعل الله للقبيح ونحو ذلك.
الطريق الثاني: أن اكتفي في الباب بعرض المسألة، وأترك الآيات المتشابهة في قسم خاص أرتبها بحسب موضوعاتها. وهذا ما آثرته لأمور ثلاثة:
كثرة الآيات المتشابهة.
ثم إن الغرض من وضعها رفع شبهة تنشأ من سوء فهمها.
وأخيرا ليكون ذلك القسم مرجعا صغيرا وسهلا، يصل القارئ من خلاله إلى أكثر الآيات التي أسيء تفسيرها.
المراد بأصول الدين ويحسن هنا تبيين المراد ب " أصول دين الإسلام" أو "أصول الدين" اختصارا
صفحة ٥
والفرق الأساسي بين ما هي أصول الدين من جهة؛ وبين ما هي فروع الدين من جهة أخرى.
أصول الدين تمثل مجموعة من العلوم التي تعطي الفرد تفسيرا للواقع الموجود، ومن ثم تحدد له هدفا من الحياة، مستخلصا من هذا الواقع، ومبنيا عليه. ولذلك ممكن أن نقسمها إلى نوعين من المسائل:
1. مسائل تكشف الواقع الذي نعيشه كما هو؛ فنعرف أننا من الله وإلى الله: فنعرف أن الله تعالى هو خالقنا وبارئنا، ومصيرنا إليه؛ ونعرف أن هذه الحياة ما هي إلا مرحلة قصيرة جدا من مراحل حياتنا، بعدها سننتقل إلى دار أخرى، لنحيا في نعيم مقيم، أو في عذاب دائم؛ نسأله الرحمة والسلامة. نعرف أنه تعالى لم يترك خلقه هملا، فهو يرسل الرسل، ويوظف الملائكة، ويدبر الأمور في هذا الكون. نعرف ما هي صفات هذا الخالق؛ فنعرف أنه تعالى قادر عالم حي، واحد أحد، عدل حكيم، ليس كمثله شيء.
نعرف موقعنا من الله تعالى؛ فنعرف أننا متعلقون به وجودا وبقاء، وأننا ضمن قدرته وعلمه، لا نعجزه، ولا نفوته، ولا نهرب من ملكه، ولا يخفى عليه أمر من أمورنا.
2. فإذا عرفنا ذلك فإننا سنخرج بنتيجة مفادها أن الواجب علينا هو الإقرار بذلك، والخضوع له تعالى لقدرته علينا، وشكره لنعمه علينا. كما إن علينا أن نعرفه جل جلاله معرفة تسبيح وتقديس وتحميد.
فالمسائل الأولى بينت لنا الواقع كما هو، والمسائل الثانية حددت لنا الهدف من مسيرنا في هذه الحياة.
أما مسائل فروع الدين، فهي تبين لنا الطريق الذي علينا سلوكه لكي نصل إلى أهدافنا التي حددتها أصول الدين، بحيث ننسجم مع رؤيتنا للحياة. ذلك لأن سلوكنا اليومي يختلف باختلاف الهدف الذي نعيش من أجله. أيضا تبين لنا فروع الدين بعض الضوابط التي علينا الالتزام بها للوصول إلى الهدف المطلوب.
وهذه المسائل الفرعية نعلمها من طريقين:
صفحة ٦
الطريق الأول: العقل؛ فمنه نعرف أن الله تعالى لا يريد منا أن نعمل القبائح، نحو: الظلم، والكذب، والعبث، والجهل، وجحد المعروف(1).
الطريق الثاني: الشرع؛ ومنه نعلم التفاصيل الواردة من طريق الشرع.
هذا عن معنى أصول الدين والفرق بينها وبين فروع الدين.
مسائل أصول الدين ومسائل فروع الدين
أما عن مسائل أصول الدين الكبرى فهي على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: المسائل المتعلقة بمعرفة الله تعالى.
النوع الثاني: المتعلقة بمعرفة الوسائط بيننا وبينه تعالى، أي معرفة الرسل والأنبياء.
النوع الثالث: المسائل المتعلقة بمعرفة مصيرنا، وهي مسائل اليوم الآخر.
ثم هناك مسائل مهمة جدا تندرج تحت هذه المسائل الكبرى؛ وذلك نحو الإمامة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي يمكن أن تندرج تحت النبوة. ومسألة المنزلة بين المنزلتين، والشفاعة، والوعد والوعيد، التي يمكن أن تندرج ضمن مباحث اليوم الآخر.
أما مسائل فروع الدين فهي المسائل الفقهية. وتنقسم إلى قسمين:
أحكام العبادات: من طهارة، وصلاة، وصيام، وزكاة، وحج.
أحكام المعاملات: نحو أحكام الزواج، وأحكام التجارة بكل أنواعها، وأحكام الحدود، وأحكام الجهاد، وأحكام المواريث...إلخ.
معنى معرفة الله
هذا الجزء كما ذكرت يتعلق بمعرفة الله تعالى، والغرض منه الوصول إلى معرفة صحيحة عنه جل وعلا.
صفحة ٧
وقولنا نريد معرفة الله تبارك وتعالى معناه تحديدا(1):
1. نريد معرفة صفات الكمال التي تليق به وبأفعاله؛ ونريد معرفة صفات النقص التي لا تليق به ولا بأفعاله؛ ونريد أن تكون هذه معرفة إقرار، وتصديق، واطمئنان: أي نريد أن نعلم " أن لا إله إلا الله". ذلك أن معنى الألوهية على الراجح في كلمة التوحيد هو " الذات المستجمع لصفات الكمال، المنزه عن كل نقص ". فمعرفة "أن لا إله إلا الله" معناها معرفة أن الله تعالى ذات له كل صفات الكمال، ومنزه عن كل صفات النقص؛ ومعرفة أنه لا يوجد ذات أخرى له صفات الألوهية.
2. ثم من بعد ذلك نرى موقعنا من صفات الله تعالى. فإذا عرفناه عالما لا يخفى عليه شيء، وقادرا لا يعجزه شيء، فإننا سنعرف أننا محاطون به لا مفر لنا، ولا مخرج لنا من ملكه. وإذا عرفنا أفعاله تعالى فينا، نحو: كونه رازقنا، وراحمنا، ومصلح أمورنا، وغيرها فسنعلم حقه تعالى علينا، ووظيفتنا نحوه.
وسيقسم هذا الجزء إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: يبحث فيه وجوب معرفة الله جل جلاله. مع إشارة إلى مراتبها وإلى الطريق إليها.
القسم الثاني: يتم فيه البحث في معرفة الله تعالى، وهو بدوره سيقسم إلى بابين:
باب يتم فيه البحث في صفات ذات الله سبحانه وتعالى.
وباب يتم فيه البحث في أفعاله تعالى.
القسم الثالث: وهو قسم الآيات المتشابهة.
ومن الله نستمد العصمة.
صفحة ٨
ملاحظتان مهمتان
وأحب أن أختم هذه المقدمة بملاحظتين مهمتين:
الملاحظة الأولى: إن تمسكنا بالإسلام وتعلمنا له ومحافظتنا عليه، ليست من حيث كونه "ديننا"، فالدين لا ننظر إليه كموقف سياسي أو اجتماعي. الدين ليس هوية قومية تميزنا عن غيرنا من الأقوام، وليس تراثا نعتز ونفتخر به في المكتبات والجامعات، بل هو موقف أمام الله تعالى. نعم، لا شك أن الدين بعد الاعتقاد به يؤثر في هويتنا، بل قد يشكل هويتنا في كل مجالات الحياة، إلا أن اهتمامنا به، أساسا، ينبغي أن يكون لأنه موقف نسأل عنه أمام الله تعالى يوم الحساب. فعندما يتعلم أحدنا لغته القومية، أو يحافظ عليها، أو يتمسك بها، فهو يقوم بكل ذلك لأنها جزء من كيانه القومي والسياسي والاجتماعي، من حيث أنها تشكل هوية مميزة له؛ فيحافظ عليها ويتمسك بها، خوفا من ضياع هويته المميزة، وبالتالي فقدان قيمته السياسية أو الاجتماعية. ومثل ذلك التاريخ القومي لأمة ما. أما الدين فهو ليس لغة وليس تاريخا؛ ولا نحافظ ولا نتمسك به خوفا من فوات مصلحة في هذه الحياة الدنيا، بل خوفا من فوات مصلحة اليوم الآخر. إن كوننا مسلمين في النسب والانتماء الحضاري ليس دافعنا لتعلم أمور هذا الدين ، بل كوننا نبحث عن ما يصلح وقوفنا أمام الله تعالى هو الدافع. وبنحو هذا المنطق، ننظر إلى دفاعنا وجهادنا في سبيل الإسلام؛ فنحن لا ندافع عن الإسلام لأنه فكرة "نحن" نعتقد صحتها، بل ندافع عنه لأنه دين الله تعالى، والله تعالى هو كل شيء في حياتنا.
صفحة ٩
أقول هذا تأكيدا لأهمية النظر في قضايا هذا الدين بتمعن وإخلاص؛ ذلك أن الآراء تباينت في حقيقة الإسلام، وأمام هذا التباين على المسلم أن يبحث عن ما يحتج به أمام الله تعالى، ولا ينبغي أن يكون البحث نحو ما يرضي شعور الفرد بالتعصب، أو عما يوافق هواه ومزاجه الاجتماعي والسياسي. وللأسف نجد أن الكثير من المتحمسين للإسلام يهملون هذه القضايا. وسبب إهمالهم لها ليس عدم أهميتها عند الله تعالى، بل لأنهم مسلموا الهوية، ينتمون وينافحون من أجل الإسلام لأنه هوية، أكثر من محاربتهم له لأن الله تعالى يرضى بهذا الموقف، ويثيب عليه الجنة.
نعم النوايا عند أولئك مختلطة ومن حب أن يتأكد من صحة الكلام هذا فيلق نظرة سريعة إلى الناشطين في سبيل الإسلام.
الملاحظة الثانية: إننا نجد الكثير من المتقين يعرضون عن هذه القضايا بدعاوي متعددة؛ ولست في معرض التعليق على ذلك، وإنما أؤكد على أن الموقف الذي يتخذه أي فرد نحو هذه القضايا، يجب أن يكون مصدره الشرع الصحيح وليس الهوى. فالكثير ينصح بالإعراض عنها لكونه لا يستطيع أن يتعامل معها، وليس لأنها ليست ذي شأن عند الله، وذلك كقصة الثعلب الذي حاول قطف العنب، فلما عجز أعرض عنها بدعوى أن طعمها مر. ومنهم من يعرض عنها لقناعته بأنها لا تنفعه يوم القيامة. وعلى كل مسلم التأكد من نواياه، فهي وإن كانت خافية علينا، فإنها لا تخفى على من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
إننا سنلقى الله تعالى، وسنسأل عن مواقفنا وعن تأييدنا وعن رفضنا { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } (الإسراء: 36) فلا بد لنا من حجة نحتج بها أمام الله تعالى، راجين منه الرحمة والمغفرة.
بعد هذه المقدمة القصيرة ندخل في متن البحث، ومن الله تعالى نستمد التوفيق، والتأييد، والعصمة، إنه سميع مجيب.
القسم الأول: وجوب معرفة الله تعالى سبق وأن بينت في مقدمة البحث أن المراد بمعرفة الله تعالى هو معرفة أن لا
صفحة ١٠
إله إلا الله؛ أو معرفة: صفات الكمال التي تليق به وبأفعاله؛ ومعرفة صفات النقص التي لا تليق به ولا بأفعاله. كما بينت أننا نريد أن تكون هذه المعرفة معرفة إقرار وتصديق واطمئنان.
وفي هذا القسم سيتم توضيح ما يلي:
معنى "المعرفة" ومراتبها.
وجوب معرفته تعالى، وأنها أهم الواجبات.
الطريق إلى معرفته تعالى.
والنتيجة التي سيتم استخلاصها من هذا القسم هي : إن معرفة الله تعالى، معرفة إقرار وتصديق واطمئنان، أهم الواجبات؛ وإنها لا تكون إلا بالعقل، بالاستعانة بالنص.
معنى المعرفة ومراتبها
"المعرفة"، في أبسط معانيها، تطلق على ما يقابل الجهل. وهي مراتب بأكثر من اعتبار. وسأشير إلى مراتبها باعتبار كميتها، وإلى مراتبها باعتبار شدتها.
مراتبها باعتبار كميتها
تنقسم المعرفة إلى مراتب بحسب قدر ما يعرف عن الموضوع، فتختلف باختلاف كمية ما يعرف عن الموضوع الواحد. فقد أعرف أن محمدا شخص موجود؛ وقد أعرف عنه أنه أخو علي، وأنه أبو زيد، وأنه ولد في سنة 1970، وعمل في سنة 1997، وعاش في مدينة صعدة. فمعرفتي الأولى بمحمد معرفة إجمالية، لا تتعدى معرفة وجوده؛ أما المعرفة الثانية فهي معرفة تفصيلية، والمعرفة التفصيلية تتوسع حتى تصل إلى حدود لا يمكن استيعابها من الإنسان عادة.
مراتبها باعتبار شدتها
أيضا تختلف مراتب المعرفة شدة باختلاف شدة تصديق واطمئنان العارف إلى أن ما يعرفه صحيح. والشدة من الأمور التي لا يمكن أن تجزأ، نحو الضوء الذي يتفاوت في شدته؛ فلا يمكن أن نضع حدودا لهذا التفاوت، ولكن يمكن أن نقول إن هناك ثلاث معالم أساسية لهذا التفاوت. وسأمثل على ذلك بمعرفة الشخص وجود حرارة في قطعة حديد:
المرتبة الأولى: مرتبة الإقرار بذلك؛ ويكون من خلال النظر إلى كون قطعة الحديد موضوعة بالقرب من نار ملتهبة.
صفحة ١١
المرتبة الثانية: مرتبة التصديق بذلك واليقين؛ وذلك بالنظر إلى ظهور أثر على هذه الحديدة نحو احمرارها.
المرتبة الثالثة: مرتبة اليقين؛ وذلك عندما أقرب إليها يدي فأشعر بحرارتها.
وشدة الاطمئنان وضعفه في هذه المعالم الثلاث يعود إلى أحد الأمور الثلاث:
الادراك المباشر بالأمر المعروف؛ كمعرفة أن محمدا في الدار لأنني رأيته في الدار، أو معرفة حرارة النار لأني لمستها أو اقتربت منها.
قوة الدليل على صحة المعروف؛ نحو الدليل المذكور في المثال فإن ظهور تغير على الحديدة، يدل على حرارتها أكثر من وجودها بقرب النار.
العلم أو الجهل بما يهدم أساس المعرفة: نحو الذي يرى النار بالقرب من النار، ولكنه لا يعلم أنها موضوعة فوق صندوق للثلج. فالعلم بحرارة الحديدة، سيختلف بين من يعلم وجود الثلج، وبين من لا يعلم وجوده.
فمن بنى اطمئنانه على أساس دليل قوي ومتين، عارفا بكل الإشكالات الواردة على صحة معرفته، وعارفا بما ينقض تلك الإشكالات، يكون اطمئنانه شديدا تزول الجبال ولا يزول(1).
ومن يبنيها عارفا بالدليل، جاهلا بالإشكالات، فهذا اطمئنانه قد يكون في ظاهر الأمر كاطمئنان الأول، إلا إنه في الواقع ليس كذلك؛ لأن أدنى إشكال قد يزعزع اطمئنانه، لولا معرفته بالدليل التي تثبت قدمه.
ومن يبنيها بغير دليل، جاهلا بما يشكل، يتزعزع مع أول إشكال، ولا يثبته إلا التعصب لما هو عليه.
وهناك من يبنيها بغير دليل معتبر، عالما بالإشكالات؛ فهو المتعصب الذي يتبع هواه، ولا يريد معرفة الحقيقة كما هي.
صفحة ١٢
وبقدر مرتبة المعرفة يكون تأثيرها على العارف. فهناك عارف يتأثر بما يعرفه تأثرا شديدا، وهناك عارف لا يتأثر إلا قليلا. ولعل أبرز مثال لهذا في حياة المسلم هو اختلاف تأثرنا بمعرفتنا أن هناك جنة ونار. فالكل يعرف أن هناك جنة، والكل يعرف أن هناك نار، ولكن التفاوت في التأثر بهذه المعرفة من شخص لآخر كبير. فهناك من يتأثر تأثرا يمنعه من التفكير في ما سواهما. وهناك من يتأثر بحيث يتجنب ما يدخله النار فحسب، ولا يسعى سعيا حثيثا لرفع منزلته في الجنة. وهناك من يتأثر تأثرا ضعيفا بحيث يعمل ما يدخله النار، ويبعده من الجنة كما لو أنه لا يؤمن بهما أصلا.
وشدة التأثر تعود إلى مرتبة المعرفة من حيث الكم، ومرتبة المعرفة من حيث الشدة. ولكن هناك عاملا آخرا يؤثر تأثيرا أساسيا على شدة التأثر بالمعرفة، وهو التفات الإنسان إلى هذه المعرفة. والالتفات لهذه المعرفة له ثلاث جهات:
الجهة أولى: بأن يكثر من استحضار هذه المعارف في عقله ووجدانه.
الجهة ثانية: الالتفات إلى ما يلزم عن هذه المعرفة في حياته اليومية، فمن عرف أن الله يعلم السر وأخفى، أدرك أن نواياه مكشوفة أمامه تعالى.
الجهة ثالثة: العمل وفق ما يلزم عن هذه المعرفة، فمن أدرك أن نواياه مكشوفة أمامه تعالى، فلا يخالف الله في أمر من الأمور.
ولأن المعرفة مراتب، فلا بد أن يكون للباحث من مرتبة يريد الحصول عليها كنتيجة لبحثه. وقد جعلت المرتبة المطلوب تحقيقها من هذا البحث هي:
تحقيق الحد الأدنى من الاطمئنان إلى صدق ما نعرفه، وذلك بأن نعرف ما نعرفه بالدليل مع الإشارة إلى بعض الاشكالات(1) .
صفحة ١٣
تحقيق حد معقول من التفصيل فيها، وذلك بمعرفة أغلب ما أشار إليه القرآن الكريم عن الله تعالى.
أما تأثيرها فهذا يعود على الفرد. نعم هناك طرق وقواعد تساعد الفرد على تحويل معرفته من معرفة جامدة إلى معرفة فاعلة، ولكن ليس هذا موضعها.
التقليد
وبما أننا نسعى إلى تحقيق معرفة تقوم على الدليل، فلا بد من الإشارة إلى المعرفة القائمة بلا دليل، نحو المعرفة بالتقليد التي هي بناء المعرفة على أساس قول الغير.
التقليد: هو اعتقاد صحة قول الغير، بغير اعتماد على حجة ولا بصيرة.
أي أن نؤمن بفكرة ونصدقها لأن فلانا قالها فحسب، بغير نظر إلى الدليل أصلا. أما النظر في أقوال العلماء السابقين وفي أدلتهم، واختيار القول الذي يوافق الدليل، فلا يعد تقليدا؛ لأن الباحث هنا، يتبع الدليل، ويستعين بأقوال العلماء السابقين في تبيين المسألة وشرحها.
وقد اختلف المسلمون في صحة التقليد في معرفته تعالى إلى فريقين أساسيين:
فريق قال بأنه يجوز تقليد المحق في معرفة الله تعالى، لأنه يتعذر على الجميع البحث لنفسه في أصول الدين.
وفريق منع من ذلك لعدم وجود سبب يرجح تقليد أحد دون آخر. فالمقلد عندما يختار بين مختلف الأقوال بغير نظر إلى دليل، يكون متبعا لهواه ومزاجه الشخصي وذوقه في اختيار قول دون قول. ومثل هذا الأمر لا يستحسنه أي عاقل. وهذا الرأي هو الراجح.
ثم إننا إذ نرجح عدم جواز التقليد في معرفة الله؛ فليس مرادنا أن على المكلف أن يبحث في تفاصيل أصول الدين، وفي الشبه المثارة، وفي جميع الأدلة؛ فهذه لا يمكن للكل القيام بها قطعا، لاختلاف الإمكانات الذهنية للأفراد، واختلاف ظروفهم الزمنية والمكانية، إنما مرادنا أمران:
أولا: تحقيق الحد الأدنى من معرفة الله القائمة على الدليل، مع شيء من الاشكالات والرد عليها.
صفحة ١٤
ثانيا: وهذا الأهم، أن يكون في نيته اتباع الدليل وليس اتباع قول من قال. وفقدان هذه النية تجعل كثير من الناس حتى بعض العلماء مقلدين؛ حتى وإن كانوا يحررون المسألة تحريرا دقيقا، ويبينون ما قيل فيها بشكل موسع ومفصل. فالعمدة في التقليد ليس مجرد عدم إظهار الدليل، بل هو عدم اعتماد الدليل، وبينهما فرق. فالأولى حالة عملية، والأخرى حالة نفسية. التقليد أخذ قول الغير أولا، ثم البحث عن ما يصلح للاستدلال عليه؛ والعمدة في عدم التقليد هو النظر في الأقوال، ثم اختيار القول الموافق للدليل. وحيث إن الحالين يبدآ من أخذ الأقوال، فإن في كثير من الحالات الفرق بين المقلد وغير المقلد غير ظاهر للعيان، ويكون في القلب، ولا يظهر إلا في النوايا، فلا يعلمها إلا الله تعالى.
وجوب معرفته تعالى وأنها أهم الواجبات
قلنا إن معرفة الله أهم الواجبات، وتم بيان موجز لمعنى المعرفة، والآن نأتي لمعنى وجوبها، ثم لمعنى كونها الأهم من بين الواجبات.
معنى الواجب
الواجب من الأفعال هو الفعل الذي تدعو الحكمة إلى فعله دعوة جازمة. وذلك بأن يكون في الفعل مصلحة قطعي وقوعها، مع كون ترك الفعل فيه مفسدة.
ويطلق الواجب على أفعال الله جل جلاله، كما إنه يطلق على أفعال العباد؛ إلا أنه قد كره الكثير من العلماء إطلاقه على أفعال الله تعالى، بسبب ربط العامة من الناس بين لفظ الواجب وبين وجود من يوجب. فأولئك العلماء يجوزون إطلاق المعنى، ولكنهم يكرهون استعمال اللفظ.
أما معنى الواجب في حقه تعالى فهو ما قاله عن نفسه جل جلاله: { كتب ربكم على نفسه الرحمة } (الأنعام:54)
فإذا أطلق الواجب على أفعال الله جل جلاله، فالمعنى أن هذا الفعل سيقع حتما، لأن حكمته تعالى اقتضت ذلك من حيث أن فيه مصلحة(1).
صفحة ١٥
وإذا أطلق الواجب على أفعال العباد، فالمعنى أنه ينبغي عليهم القيام به. أو المعنى يكون أن فاعل ذلك الفعل يستحق المدح والثواب، وأن تارك ذلك الفعل يستحق الذم وحده، أو الذم والعقاب معا.
فمثلا الصدق فعل واجب، لأن الحكمة تدعو إليه دعوة جازمة.
وطلب العلم فعل واجب، لأن الحكمة تدعو إليه دعوة جازمة.
وإقامة العدل بين الناس فعل واجب، لأن الحكمة تدعو إليه دعوة جازمة.
والاقرار بإحسان المحسن فعل واجب، لأن الحكمة تدعو إليه دعوة جازمة.
فهذه واجبات لأن الحكمة تدعو إليها جميعا. فمن قصر في أي منها استحق ذما، ومن قام بها استحق مدحا.
ومعرفة الله تعالى واجبة بهذا الاعتبار. فالحكمة تدعو إلى معرفة الله تعالى، وتحكم بقبح تركها.
وغالب الناس من ينظر إلى الواجب من حيث أنه الفعل الذي تركه فيه ضرر، بغير أن ينظر إلى المصالح الراجعة إلى الفاعل بسبب القيام بالفعل، أو المفاسد المترتبة بسبب ترك الفعل. فتصبح قيمة الصدق أنه جالب للمدح والثواب، وقيمة العلم كذلك ومثله بقية الواجبات. كذلك يصبح المانع من الكذب هو خوف العقاب، والمانع من الجهل هو ذم الناس ونحوه.
ومثلها معرفة الله تعالى، فالكثير ينظر إليها من خلال الخلاص من العقاب والحصول على الثواب. وهذا أمر جيد في نفسه، لا إنكار عليه على الاطلاق، ولكن نريد هنا لفت الانتباه إلى قيمة معرفة الله، بدون النظر إلى ثواب معرفة الله، أو عقاب الجهل بالله. نريد لفت الانتباه إليه من حيث أنه يوصل إلى مطلوبنا الرئيس، وهو: تحقيق العبودية الصحيحة فينا.
فإن من لم يسع إلى معرفة الله إلا لكونه يعاقب على تركها، ويثاب على فعلها، لن يحصل من مراتبها إلا على ما يقيه العقاب ويمنحه الثواب.
صفحة ١٦
أما غيرها من مراتب المعرفة، فلا يحصل عليها إلا من أراد منها أن تحقق عبوديته لله تعالى؛ فليس المراد من المعرفة هنا مجرد حفظ المصطلحات، بل هي استقرار هذه المعاني في القلب بحيث نبدأ في معرفة الله معرفة يقينية. وإقرار هذه المعاني في القلب خوفا من العقوبة غير إقرارها فيه طلبا للعبودية. وهذه القضية تعود في الأصل إلى خلاف خلاصته هو:
هل نعبد الله تعالى شكرا له على ما أنعم ولأنه المستحق للعبودية(1)؟
أم نعبده تعالى خوفا من النار وطمعا في الجنة فحسب؟
نحن نقول إن الإنسان ينبغي أن يربي نفسه بحيث يعبد الله تعالى شكرا على ما أنعم، ثم لأنه مستحق للعبودية. ولذا فأكثر ما سأذكر من أدلة على وجوب معرفة الله تعالى منطلقة من كون الحكمة تدعو إلى معرفته تعالى.
الأدلة على وجوب معرفة الله تعالى
الدليل الأول: إن التقصير في معرفة الله تعالى يوجب العقوبة.
أما الدليل على ذلك فهو قوله تعالى { فاعلم أنه لا إله إلا الله } (محمد:19)، فدلت هذه الآية على وجوب معرفة الله تعالى بناءا على الآتي:
أوجب الله تعالى العلم بأن لا إله إلا هو. فمن قصر في هذه المعرفة فهو مقصر، آثم، عاص، مستحق للذم والعقاب. ولفظ الإله له أحد معنيين هما:
المعبود.
أو الذات المستجمع لصفات الكمال المنزه عن صفات النقص بأجمعها.
على المعنى الثاني للإله، فالآية صريحة في وجوب معرفة الله. أما على المعنى الأول، فنفي الألوهية عن سوى الله ليس بمعنى أنه لا توجد آلهة غير الله تعبد من قبل الناس، لأننا نعلم يقينا أن هناك من يعبد غير الله تعالى، بل المعنى هو نفي استحقاق أي آلهة سوى الله العبودية، وتثبيت أن المعبود بحق إنما هو الله.
صفحة ١٧
وعلى كلا المرادين، فالمعرفة بالله واجبة؛ لأننا لا نستطيع أن ننفي استحقاق ما سوى الله للعبادة إلا بمعرفة معنى العبادة، وتحديد من يستحقها على الجملة، أي تحديد أنه لا يستحقها إلا من استجمع صفات الكمال، وتنزه عن صفات النقص، ثم نفي أن يكون شيء من المخلوقات مستحقا لها، ثم إثبات وجود من يستحقها، ثم معرفة أن لا يوجد إلا ذات واحد يستحقها، لا ينبغي بل يستحيل وجود ذات ثاني. هذا الذات هو الله تبارك وتعالى.
الدليل الثاني: إن العبادة لا تقوم الا بمعرفة الله
هذا الدليل يقوم على أساس الربط بين معرفة الله تعالى وبين الغاية الوحيدة التي تبررها العقول في هذه الحياة وهي: عبادة الواحد الأحد.
معنى العبودية لله عز وجل
ما هي علاقتنا بالله تعالى؟
إن حقيقة علاقتنا بالله تعالى هي علاقة العبودية { وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون(1) } (الذاريات:56). والعبودية هي مجموع من التحميد والتسبيح والتعظيم، والخضوع والذل والمحبة، والوله والشكر والخشية، والفقر والحاجة والتوكل، والاستسلام والرضا والدعاء.
وهذه العلاقة بالله تعالى ليس دليلها الآية فحسب، بل العقول شاهدة على ذلك.
1. فمن نظر في نفسه، وعجزه، ومحدودية وجوده؛ ثم علم بصفات الجلال والكمال لله سبحانه وتعالى، وعلم قدرالله عليه وعلمه به؛ وعلم عجزنا الكامل أمام إرداته تعالى فينا؛ وعلم انكشاف أمورنا بالكلية له جل جلاله؛ فلن يكون أمامه إلا طريق الخضوع، والذل، والاستسلام لله جل جلاله.
صفحة ١٨
بل إن الإنسان لا يجد نفسه حقيقة إلا إذا خضع واستسلم لله تعالى؛ لأن حقيقة الإنسان هي المملوكية الكاملة لله تعالى، ولا يمكن أن ننفك عنها مهما كان. وليست مملوكيتنا له تعالى كمملوكيتنا لغيره، أو مملوكية غيرنا لنا، فتلك تنفك وتتغير وتتبدل. فقد يملك الإنسان بيتا يوما من الأيام، ثم تزول عنه ملكيته يوما آخر. وقد يكون عبدا عند فلان، ثم يموت سيده، فيكون عبدا عند غيره. وهكذا كل أشكال المملوكية بين الخلق لا ثبات لها ولا استقرار. أما مملوكيتنا لله تعالى، فهذه لا تنفك عن وجودنا. وأقرب مثل لها هو الزوجية والفردية في الأعداد. فالرقم اثنين عدد زوجي، ومفهوم الرقم اثنين غير مفهوم الزوجية؛ ولكن يستحيل أن تتصور الإثنين بغير كونها زوجا. ومثله أي عدد مفرد. وهكذا وجودنا لا ينفك عن مملوكيتنا الشاملة لله جل جلاله.
2. ثم لما يرى أن لا طريق إلا إلى الله في رفع الحاجات، وإجابة الطلبات، فسيكون هناك الشعور بالفقر إليه، وإنزال الحاجة لديه، والتوكل عليه، والدعاء له.
3. فإذا رأى بعد ذلك رعاية الله تعالى لنا، المتجلية في ما خلق لنا من نعم نتقلب فيها، ومن عقول نتميز بها عن ما سوانا؛ ثم بعد ذلك حرصه تعالى على نفعنا، وإرساله الرسل بعد الرسل ليدعونا إلى رحمته؛ ثم ما وعدنا من جنات أبدية، عرضها السموات والأرض، مقابل القليل من طاعته؛ وكل ذلك وهو غني عنا، ولا نفع له منا؛ لا شك أنه سيحب الله جل جلاله ويشكره.
صفحة ١٩
4. ثم إذا رأى بعد ذلك المصائب النازلة من الله تعالى، وقد رأى حول كل مصيبة واحدة ألاف وألاف النعم العظام؛ فسيعلم أن منزل هذه المصائب إنما أنزلها لمصلحتنا، وليس لتعذيبنا، فيرضى بذلك. وكيف ينزلها الله لضرنا وقد أحاطنا بنعمه. ولو أراد الله تعالى منها الضرر، لما عجز عن رفع ما بنا من نعم. ولكن القلوب المريضة، الكافرة بالنعمة، والجاحدة للمعروف لا ترى إلا بعين السخط؛ سخط الله عليها، وأعد لها ما تستحقه من غضبه؛ وجعلنا من من يشكر نعمته، ويرضى بقضائه.
فعلى الجملة لا ينكر عاقل منصف، أن العبودية هي السبيل الذي يجب أن يسلكه الإنسان في هذه الحياة، والأدلة على ذلك أوسع مما يحاط. والعبودية لا يمكن أن تتحقق إلا بأن نعرف الله تعالى. ويظهر هذا بجلاء بالتأمل فيما سبق.
فالخضوع والاستسلام لله تعالى، لا يتحقق إلا بمعرفة أنه قادر على كل شيء، عالم بكل أمر.
ومحبة الله كذلك، فبقدر ما يعرف الإنسان نعم الله عليه، واستغناء الله تعالى عنه، بقدر ما سيحبه.
وكذلك التسبيح والحمد، لا يمكن أن يكونا ذا معنى إلا بالمعرفة. ذلك أن التسبيح تنزيه لله تعالى عن ما لا يليق به. وهذا يقتضي أن يعرف المسبح ما لا يليق بالله تعالى، وما يليق به جل جلاله. فكيف ينزه الله تعالى من لم يميز بين ما هو لائق بالله، وبين ما هو غير لائق به. أما الحمد لله، فهو نسبة الكمال إلى الله؛ وكيف ينسب إليه الكمال من لم يعرف وجوه الكمال، وما يصح نسبته إلى الله، وما لا يصح نسبته إلى الله.
والدعاء الذي هو مخ العبادة من حيث أنه تتجسد فيه حاجة الداعي إلى المدعو إليه، وخضوعه أمامه لا يمكن أن يتحقق إلا بمعرفة الله تعالى. فهل يمكن أن ندعو من لا نوقن بإجابته؟ وهل ندعو الله ونحن لا نعلم أنه تعالى ولي حاجاتنا؟ وهل نعرف هذه الأمور بغير أن نعلم أنه القادر على كل شيء؟ العالم بكل شيء؟
صفحة ٢٠
وفي قول الله تعالى { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } (الأعراف:180). هل المراد بدعاء الله تعالى بها التلفظ بألفاظها بغير تعقل للمعنى؟ كلا!! بل الدعاء إلى الله تعالى بأسمائه الحسنى لا يكون إلا بعد معرفتها، ومعرفة معانيها معرفة صحيحة بحسب ما يمكن للإنسان أن يعرف منها.
والخشية لله جل جلاله، لا تتحقق كذلك إلا بمعرفة الله تعالى ومعرفة قدرته علينا، وعظيم صفاته تعالى. وقد أكد الله تعالى هذا المعنى بالخصوص إذ قال { إنما يخشى الله من عباده العلماء } (فاطر:28)، فدل على أن خشية الله لا تنال إلا بالعلم.
والشهادة لله في قوله تعالى { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط } (آل عمران:18)، لا تتحقق بغير علم. فكيف يشهد أولوا العلم بهذه الشهادة العظمى إذا لم يكن لديهم معرفة بالله؟ بل أي مقام لهم وأي شرف هو إذا شهدوا بهذه الشهادة العظيمة التي من عظمتها شهد الله لهم أنهم يقومون بها؟!
وقال تعالى { قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد } (سورة الأخلاص) فكيف يشهد العبد لله بهذه الصفات، إذا لم يكن لديه معرفة حقيقية بالله؟ بل إن كل آية ذكر فيها وصف لله تعالى لأعظم دليل على أن معرفته تعالى واجبة، ولا ينكر هذا إلا مكابر!!
وشكر الله تعالى لا يتحقق إلا بمعرفته جل جلاله. ولكي يظهر هذا لا بد من معرفة معنى الشكر تحديدا.
الشكر: هو الإقرار بنعمة المنعم مع تعظيمه.
فلكي نشكر الله تعالى علينا أن نعرف أنه هو المنعم، وعلينا أن نقر بنعمه علينا، وعلينا أن نعظمه تعالى.
والنعمة هي المنفعة الحسنة الواصلة إلى الغير إذا قصد بها وجه الإحسان(1).
ولا يمكن معرفة أنه تعالى هو المنعم على الحقيقة، إلا إذا عرفنا مجموع ما يلي:
أن النعم التي لدينا لا يمكن أن يخلقها غير إله قادر على كل شيء.
صفحة ٢١