علي بن أبي طالب
يقرر أول حقوق الإنسان
لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة . (المائدة: 48)
تأسيس
لا شك أن عوامل متعددة تقف من وراء التمسك العنصري بالجنس والدين والجذور القومية، ذلك التمسك الذي يتمثل في حنين حاد للماضي، جاء كرد فعل طبيعي إزاء فترة طويلة من الاحتلال الأجنبي، مع ما أنبأت به مرحلة ما بعد التحرر الوطني من فشل مشاريع التحديث، وإقامة مجتمعات عصرية، وما لازمها من فشل آخر منيت به التوجهات العلمانية في إيجاد مرتكزات جماهيرية لها، وهو بدوره ناتج عن أسباب ليس هنا مقام مناقشتها، أما العامل الأساسي في ذلك التوجه الكاسح نحو الماضي، فهو وجود الدولة الصهيونية على التراب الوطني، وما يشكله هذا الوجود من خطر وتهديد مستمرين، وجرح غائر نازف دوما في الكرامة الوطنية والقومية، ولا نزاع في أن قيام الدولة الصهيونية على أسس عنصرية جنسية قومية تتمثل جميعا في الدين، كان دافعا للتوجهات نفسها في بلادنا، خاصة مع مقارنة أحوالنا بأحوال الدول المتقدمة؛ ومن ثم نزعت الجماهير - وفق خطط وبرامج معدة سلفا - للعنصرية القومية والجنسية التي تم تشخيصها جميعا في الإسلام، ليصبح دين الإسلام هو الوطن وهو الجنس، الذي يجمع كل المسلمين على اختلاف أوطانهم وأجناسهم، من باب توسعة حجم المجابهة البشرية مع إسرائيل، وربما مع العالم المتقدم، بتحالف كل المسلمين - على اختلاف مصالحهم الوطنية ومصالح فئاتهم الاقتصادية - مع الله ليصبحوا كما كانوا قديما شعبه المميز، وخير أمة أخرجت للناس في مقابل شعب الله المختار وبني إسرائيل الذين فضلهم على العالمين، ولتمرير المخططات الاستراتيجية للتحالف الإمبريالي عبر توحد مزعوم في مؤتمرات ومجالس، تؤدي في نهاية المطاف إلى مزيد من قمع الجماهير وترد للأنظمة، بحيث ننتهي إلى مقلب نفايات الأمم الغوابر.
وبهذا المنطق السائد يتم إغلاق الدائرة، وتصبح خصوصيتنا العرقية الجنسية القومية أدلوجة دينية، تجد تنظيراتها في مكتباتنا المزدحمة بما يطلق عليه ذلك الاصطلاح المجازي «التراث الإسلامي». بينما تصبح أي محاولة مخالفة، هي ابتعاد عن الاعتصام بحبل الله، وابتعاد عن صالح سلفنا وتنظيراته، وسقوط في مزيد من الانحطاط.
ومع الإحساس - المتنامي دوما - بالدونية والتقزم واليأس المطبق عن اللحاق بعالم اليوم، تنعكس المشاعر لتحول الدونية إلى الطرف المقابل؛ لإيجاد نوع من التوازن النفسي، فتتضخم الذات، والثقافة القومية، والأصل، والماضي، حتى نصل بها إلى أقص الطرف الآخر، بنرجسية واضحة، بل وفصامية، فنستخدم أحدث المنتجات العلمية الغربية، ثم نبرر لأنفسنا الوجه الآخر من الفصام العاجز، بالأزمة الروحية والاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها العالم المتقدم بشقيه، والتي لا بد أن ترجع أسبابها - وفق هذا المنطق المريض - لأخذ الغرب بالعلم البشري وحده، مع التشكيك الملح في قيمة ما أنتجه العقل البشري، وفي إمكانات هذا العقل.
ولا يبقى - مع التكاسل عن بذل الجهد، ومع اليأس - سوى الخلاص اليسير والسهل، بالتوجه نحو الماضي التليد؛ نرأب فيه صدعنا النفسي، دون حلول حقيقية على المستوى الواقعي، وإبان ذلك نخرج الشحنات مريضة وعشوائية، في تطرف هنا، وقمع من هناك، والغريب أنه لا يخفى أن كلا من التطرف والقمع يلقي دعما عجيبا، ماديا ومعنويا، يصل إلى درجة التحالف المباشر، أما الأعجب فهو أن الدعم لكليهما يأتي جميعه من مصب واحد، وإن اختلفت روافده!
ومع التخبط لحظة السقوط تبرز عدة شعارات تترجم توجهات أصحابها، تتواتر وتتزايد وتزايد، ما بين شعار الاستقرار الوطني، وبين مجموعة شعارات تجمعها حزمة واحدة، من قبيل العودة للتراث، العودة للجذور، العودة للأصول، لكن الواضح الغالب أن تلك العودة كانت غالبا للحصول على بعض من فيض البترودولار، وللعثور على لحية ومسبحة وجلباب قصير مع مناوشات عشوائية مع أصحاب شعار الاستقرار؛ وهي مناوشات في النهاية لا تغني ولا تشبع إلا أصحاب السيادة والسلطان، مع مزيد من تبرير توجهاتهم القمعية التي لا تنال في الحقيقة وفي الهدف سوى القوى الوطنية الحقيقية.
ولا نرتاب لحظة في شكنا في نوايا التوجهات الإعلامية الرسمية، وسعيها الدءوب لوضع الدين على قمة الهرم الفكري لمنتج الأمة الثقافي، الذي كونته خلال تاريخها الطويل، بحيث يظهر الدين وحده، والإسلام تحديدا، كما لو كان هو تراث أمة العرب ومنتجها الفكري الوحيد، وأدلوجتها عند التطبيق، وكل ما في الأمر هو انتظار تحقيق مناخ مناسب لتحويله من نظر إلى عمل، ومن قوة إلى فعل.
صفحة غير معروفة