28
ومما يؤكد مذهبنا في تحويل اليهود الآلهة القديمة إلى ملائكة، تأكيد «سبتينو موسكاتي» أن الوصف الدقيق الذي قدمه النبي «حزقيال» لطائفة الكروبيين من سادة الملائكة، إنما كان نتيجة تأثره بما شاهده في بابل إبان الأسر البابلي في القرن السادس قبل الميلاد، حيث يقول: «وحزقيال متأثر في هذا الوصف - ولا ريب - بتماثيل وصور الكائنات الجنية التي كانت تحرس معابد بابل وقصورها، والتي شهدها حزقيال قطعا إبان المنفى». ويؤكد ذلك أن في سفر حزقيال إشارات مباشرة إلى الصور المحفورة على الجدران في بابل.
29
وهنا يلوح لنا التداخل الذي حدث لبعض الآلهة المتحولة إلى ملائكة، ما بين كونها ملائكة أو جنا؛ نتيجة للتداخل الذي حدث بين فكرة الملائكة التابعة للإله، وبين الصور البابلية للجن، التي تصورهم كائنات بقرون وحوافر وذيول، التي شاهدوها إبان الأسر البابلي. ولما كان «إبليس» إلها قديما للشر، فمن المنطقي أن يتحول بدوره إلى ملاك تابع، وإلى جني في الوقت نفسه، ومن هنا - فيما نظن - نشأ التضارب فيما بعد، ما بين كونه ملاكا أم جنيا؟
وفي مثل مذهبنا هذا نجد «العقاد» يقول: «إن التطور في الديانات محقق لا شك فيه، أما التوحيد فهو نهاية تلك الأطوار كافة في جميع الحضارات الكبرى، فكل حضارة منها قد آمنت بإله يعلو على الآلهة قدرا وقدرة، وينفرد بالجلالة بين أرباب تتضاءل وتخفت حتى تزول، أو تحتفظ ببقائها في زمرة الملائكة التي تحف بعرش الإله العلي.»
30
ونساند ما رأيناه في التداخل بين الملائكية والجنية في شخصية «إبليس» بقول «العقاد»: «ففي أقدم العهود لم يكن عند العبريين فارق بين خلائق الكائنات العلوية وخلائق الكائنات الأرضية من إنسانية وحيوانية، ولم يكن عندهم كذلك فارق بين هذه الخلائق وخلائق الشيطان، فكان الشيطان يحضر بين يدي الله مع الملائكة، وكان الملائكة يهبطون إلى الأرض، فيعاشرون بنات الناس، ومن هؤلاء الملائكة من يعمل في طاعة الشيطان.»
31 (11) إبليس التيس
وتتمة لمذهبنا في هذا التحول، نزعم أنه كان للمسيحية دور آخر كبير في التحولات التي دخلت على فكرة إله الشر. حيث نجد تحول إله الشر إلى ملاك مغضوب عليه، قد ظهر واتضح بجلاء في القرن الأول الميلادي. ثم بعدها أخذ المسيحيون يصورونه في هيئة إنسان ذي قرون وحوافر وذيل. وكان هذا في رأينا نتيجة لأن شعوب حوض المتوسط الشرقي كانت لا تزال تعبد الإله «آتيس»، ورمزه التيس ذو القرون والحوافر والذيل، وتعده إلها شهيدا. كما كانت هذه الشعوب بشكل عام، تتعبد إلى صور متعددة لتموز الرافدي، حتى سادت صورته الفينيقية بشكل واسع ممثلة في الإله «أدونيس». وكان يرمز له بدوره بالتيس، وكان بدوره إلها شهيدا. كذلك كان «ميثهرا» إلها شهيدا يحمل الصورة نفسها، فلما جاءت المسيحية واعتقد المسيحيون أن إلههم «يسوع» شهيد، ووجد الآباء الكنسيون صورة هذه الآلهة تتشابه - مع طقوسها - مع العقيدة المسيحية، لم يرجعوا ذلك إلى أن المسيحية مصب صبت فيه هذه المعتقدات، إنما اعتبروا هذه الديانات الأخرى التي ظلت في حالة صراع مع المسيحية حوالي خمسة قرون، قبل أن تصبح المسيحية دينا رسميا، صنعة للشيطان، وأن هذه الآلهة التي في صورة التيس لم تكن سوى تمثلات للشيطان نفسه.
وبحسبان كل هذه الديانات بما فيها المسيحية ديانات فدائية تقول بإله شهيد فدى البشر بنفسه، وتذبح نموذجا حيوانيا له في عيد موته وقيامته، الذي كان عيدا عاما في كل ديانات حوض المتوسط تقريبا، فإن التيس كان هو القربان الأمثل؛ لذلك رأت المسيحية أن تخالف ذلك، فاعتبرت إلهها الشهيد خروفا وليس جديا أو تيسا. واعتبرت الخروف القربان الأمثل، وعليه فكل من يؤمن بالإله الخروف فهو من أهل اليمين الخالد في النعيم. أما من يؤمن بالإله التيس فهو من أهل اليسار، أتباع إبليس، ومصيرهم جهنم. وفي هذا يقول إنجيل متى (إصحاح 25): «ومتى جاء ابن الإنسان (المسيح) في مجده، وجميع الملائكة والقديسيين، فحينئذ يجلس على كرسي مجده، ويجتمع أمامه جميع الشعوب، فيميز بعضهم عن بعض، كما يميز الراعي الخراف عن الجداء، فيقيم الخراف عن يمينه والجداء عن يساره، ثم يقول الملك للذين عن يمينه: تعالوا يا مباركي أبي، رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم ... ثم يقول أيضا للذين عن اليسار اذهبوا عني يا ملاعين، إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته.»
صفحة غير معروفة