الأسطورة والتراث

سيد القمني ت. 1443 هجري
157

الأسطورة والتراث

تصانيف

Sirapis » وبينما كانت جامعة الإسكندرية مركز الإشعاع الفكري والعقدي آنها، تواصل تصديره مع كل طالب علم، مصحوبا بكثير من الإضافات التفسيرية والفلسفية.

وقد انتهينا في كتابنا المذكور إلى أن عبادة «أوزير» في مصر القديمة قد ترافقت مع ثورة عظمى ضد النبلاء والملكية والدين الرسمي القائم، وذلك قرب نهاية الدولة القديمة، وكانت هذه الديانة بمثابة الأيديولوجيا التي حددت للثورة طريقها وأهدافها، بعد أن جمعنا لذلك عددا من القرائن والبراهين، انتهت إلى حسبانه الإله الذي رمز لانتصار العدل على الظلم، وأن موته في أسطورته، على يد الظالمين، وما عاناه من آلام أثناء ذلك تعبيرا - ومشاركة - عن آلام الجماهير، ثم موته، ثم قيامته من الموت، إعلام عن عودة الوعي، أو عودة الجماهير إلى الصحو. كما كان ابنه الإلهي «حور» وهو يقود الجيوش ضد الملك الشرير الظالم «ست»، لهيبا يؤجج صدور الجماهير ويشعلها حماسة، ومن هنا كان الإيمان بأوزير يعني ضرورة القيامة والثورة والتجدد الدائم، كالزرع المتجدد دوما، الذي يكافح تحت التربة بعد الموت الظاهري، للعودة إلى الحياة مرة أخرى، فأوزير قد تعذب ومات شهيدا من أجل المتألمين، ومشاركة لهم في الآلام، وقد ساعد على انتشار هذه العقيدة في بقاع الإمبراطورية الرومانية دور الإلهة «إيزي»، التي مثلت الوفاء بأجلى معانيه لزوجها الثائر، ورفضت أي استسلام للقدر الذي قرره رب الدولة «رع» على زوجها بالموت. وقامت تجمع أشلاءه بعد مقتله، من أجل القيامة المجيدة. ومثلت دور الأنثى الثائرة، التي تقوم بدورها من أجل إقامة العدل، ودور الزوجة المخلصة الوفية، لكنها الحرة، التي يحرر حبها من يؤمن بها ويحبها. ومن هنا وجدت لها من الإناث عابدات مخلصات في كل صقع، في ضوء مقررات الاستعباد الروماني للمرأة التي أصبحت في عصر الآلام مجرد متاع رخيص مبتذل، مع وعد بعالم آخر بلا ألم ولا ظلم قرب عرش «أوزير»؛ لأن «أوزير» لم يستشهد إلا عن قصد منه ورغبة؛ لكي يثبت أن من يموت يقوم، ومن يعاني الآلام لا بد أن يعوض عنها عالما سعيدا خالدا؛ ومن هنا قرر أن يكسر حاجز الخوف عن الجماهير، فهبط من مجده السماوي، ومات، وقام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء بعد أن التقى بروحه بحبيبته «إيزي» وهي بعد عذراء، بلا ملامسة جسدية، فأنجبت منه «حور»، وعليه كان الإيمان بأوزير هو بمثابة بنوة له؛ لأنه التقاء أرواح، ويصبح المؤمنون به أبناء له، يدخل الإيمان إلى قلوبهم مصحوبا بصفته الإلهية، فيخلدون مثله في عالمه الآخر؛ لذلك كان الإيمان بأوزير وبموته وقيامه، سبيلا إلى قيامة أخرى للمؤمنين في عالمه السعيد، ومن يمت شهيدا فسوف يقوم، ولا عجب إذا وجدنا هذا الإله يفعل فعله الأيديولوجي في عقر الدولة الرومانية، فتتخذ ثورة العمال في عصر الآلام من الديانة المصرية أيديولوجيا دافعة للثورة.

67

وبرغم كل محاولات الحكام المتتالية لتفريغ هذه الأيديولوجيا من مضمونها الثوري، سواء في مصر أم خارجها، ومع الإجهاض المتتابع من الأجهزة الحاكمة، للثورات التي كان دافعها ومحركها الأيديولوجيا الأوزيرية، وعلى مر السنين، بدأت تتكون لدى الجماهير قناعات أن النجاح الأعظم للثورة الكبرى على الظلم إنما يتحقق بعودته مرة أخرى من السماء ليخلص الناس من الآلام، بخاصة في عصر الآلام، ومن هنا بدأ الانتظار للمخلص أوزير، وبدأت الشائعات المعبرة عن رغبة الجماهير تتحول إلى لون قدسي يؤكد أن «أوزير» قبل صعوده إلى السماء أكد أنه سوف يعود مرة أخرى ليقيم دولة للعدل ومملكة المساواة والإخاء.

وكان تفريغ هذه الأيديولوجيا من محتواها الثوري مهمة أولى وأساسية جابهت الإمبراطورية في البداية، بحيث لا يبقى منها سوى جانبها السلبي المتمثل في انتظار عودة المخلص بهدوء، أو الخلاص الروحي بانتظار الموت ليذهب المؤمن إلى عالم العدل السماوي؛ ليعيش هناك إلى جوار «أوزيريس»، أو سيرابيس (التسمية الرومانية للإله المصري)، وجاء التحقيق ببساطة في اعتناق الطبقات الراقية، والمترفة، والمثقفة، ورجال الجيش، لهذه العقيدة، بعد أن كانوا يشكلون تيارا تابعا للمدرسة الفلسفية الرواقية، تلك الفلسفة التي اتضح فيها التدخل المباشر، عندما تحولت من فلسفة مادية إلى فلسفة روحية؛ لتقوم بدورها التخلفي الرجعي فتمتزج بالعقيدة الأوزيرية، وتشكلان فلسفة إشراقية صوفية، تفي بالغرض الأمثل للمؤسسة العسكرية الحاكمة، كي يعطي ما لقيصر لقصير، وما لله لله، ومن هنا دخلت على الأوزيرية مصطلحات فلسفية لا تعني الجماهير في قليل أو كثير، أو ربما لم تكن مفهومة لهم أصلا، بينما انتشر بينهم منها (مع دور الكهان وما يمثلونه من قيمة للإنسان العادي) فقط الجانب الإشراقي المتمثل في انتظار الموت خلاصا. أما الطبقة المثقفة فقد انتشرت بينها هذه العقيدة والفلسفة انتشارا هائلا، بعد أن تم إفراغها من الطبقة صاحبة المصلحة في الجانب التثويري؛ لتصبح العقيدة الجديدة ترفا روحيا لأناس أوجعهم الشبع، يبحثون عن كل الغرابة ويذهبون وراء الإغراب، في بلاد الشرق والاستشراق.

وبعد أن انتهت المدرسة الرواقية المسيسة من إنجاز المهمة الموكلة إليها، تحولت فلسفة الكلمة

Logos

التي كانت تعني من قبل قانون الوجود، إلى أن تصبح هي سر الوجود، أي أصبحت فلسفة حلولية تنادي بالوحدة العالمية (تحت راية الإمبراطورية بالطبع)، وبالإخاء الإنساني، فقادت الحركة الروحية بزعامة «بوسيديونيوس»،

68

وبعد أن تحولت جامعة الإسكندرية إلى مرتع فلسفي للرواقيين، دمجت الكلمة

صفحة غير معروفة