وتتم معالجة الدين بحيث يبدو دوما كسلسلة من الإحداثيات الإعجازية التي لا ترتبط بالواقع بحال، بحيث تبدو الأجهزة الإعلامية كما لو كانت المعبر الصادق عن ضمير الجماهير التي تم النفخ في نيران عنصريتها سلفا، ومن جهة أخرى يستوعب ذلك الإعلام الموجه تلك التوجهات، ويوظفها بعيدا عن أية علاقة بالواقع الراهن، ولا حتى الماضي، بغض النظر عما يمكن أن يؤدي إليه هذا المنهج من مزيد من التردي والسقوط.
وكما هو حادث ومشاهد، ينجم عن وضع الدين كإحداثيات إعجازية، تخرق نواميس الواقع ومنطق الطبيعة وقوانين التطور الاجتماعي، تسلسل آخر للبحث عن معجزات جديدة، كانت مستبطنة فيه، مع انتظار راكد بليد وسقيم لخلاص سماوي وإعجاز علوي يتدخل مباشرة؛ ليحل لنا أزمتنا ويعيدنا إلى عصر الفتوحات؛ فنحمل السيوف، تتقدمنا جيوش الملائكة. فقط على الجميع أن يلتزم الفروض والسنن بكافة دقائقها من الصلاة حتى المسواك، وبدءا بطاعة الله وانتهاء بطاعة أولي الأمر منا.
ولا يجد بعض فقهاء المؤسسات الحاكمة بأسا من تضخيم تلك النرجسية الفصامية، بالتفتيش في التاريخ القبلي والإرث الروحي عن غابر الأمجاد، بإصرار لا يفسره إلا القصد والرغبة في تأكيد زرع العصاب المرضي في الجماهير، وبخاصة لدى فئة أنصاف المثقفين؛ حتى يصل الشعور القبلي ذروته، في تصنيف العلوم حسب طائفة مبدعيها الدينية، وإقامة مؤتمرات العلوم الإسلامية بصنوفها، التي تتم بتشجيع ورعاية ودعم المؤسسات الحاكمة، وتفتتح بكلمات ميمونة من أصحاب المعالي، ويصرف عليها ببذخ، وبدعم لم تنكره الحسابات المعلنة للمؤسسة المخابراتية الأمريكية! وبإلحاق كافة العلوم بمصدر سماوي، يصدر التأكيد بعجز العلم البشري وقصوره، وينتفي دور العقل الذي أنتج تلك العلوم خارج حدودنا العصماء، وإبان ذلك يتم تسفيه ذلك العقل وتلك العلوم، كلما تصور المتعالم التلفازي، ذو العلاقات المعلومة والرائحة المميزة، أنه قد عثر على ثغرة في ذلك العلم، في غفلة من كل علماء الدنيا، ثم لا يجد مناصا بعد كشف الثغرات والنفخ في النعرات، من إحالة شبابنا عن كتب الكيمياء والفيزياء والاجتماع والتاريخ، والسياسة خاصة ... إلخ، إلى كتاب الله وحده الذي يشمل كل ما تم الكشف عنه وما لم يكتشف بعد، دون أن يكلف سيادته نفسه مرة واحدة بالكشف عن نظرية علمية واحدة من كتاب الله، قبل أن يكتشفها علماء الدول المتقدمة الكافرة بعقولهم القاصرة.
ووسط هذا الضجيج الصاخب، تطفر هناك، وتطفو هنا، أعمال لكتاب مهمومين، ينادي بعضها بالعمل السريع لتجاوز التاريخ العبء، الذي يفرش ظله السحري الماضي على حاضرنا ، فارضا الاكتفاء به كمثل لا يصح تخطيه، بينما ينادي بعضها الآخر بإعادة كتابة التاريخ، بغرض تنمية قدراتنا على صنع تاريخ جديد، هذا بينما اتجه آخرون - عمدا - للانتقاء من التراث جانبه المشرق المضيء الذي يتناغم مع أدلوجتهم وأسلوبهم في حل مشكل واقعنا، إلا أن المحبط في تلك المحاولات الأخيرة، التي قدمها مفكرون ذوو شأن يقعون من جيلي موقع الأساتذة والرواد، هو أن بعضهم - وقد حدث - يتراجع فورا عندما ينافره المفسر التلفازي اللوذعي. أما بعضهم الآخر الذي استعصم بمبدئه وقدرته على المنافرة، فقد طرح بالفعل محاولات جادة، بل وعظيمة وصادقة النوايا. لكنها جاءت خطابا مترفا ومتخصصا، يتوجه بأسلوبه وإغراقه في استخدام الاصطلاحات، وتضلعه بما لديه من تراكم معرفي ومفهومي - لنخبة من المثقفين القادرين على تناوله، إضافة إلى كون هذه المحاولات العظيمة جاءت في شكل أسفار ضخمة وهائلة كما وكيفا، نزعت - لطبيعة موضوعات بحثها - نحو الإطالة المفرطة؛ مما جعلها بعيدة عن متناول الإنسان العادي، لا في حجمها وما يتطلبه درسها من وقت يقتطع من يوم العمل الشاق، ولا في أثمانها التي نأت بها عن أيدي أصحاب المصلحة الحقيقيين في تناولها، فظلت في أيدي المجموعة المترفة، والمتخمة بالثقافة أصلا؛ لتمضغ كلماتها في مسامرات فكرية وندوات ديوانية.
أما الأخطر في رأينا - دون أن نحدد أو نفتح صراعا جدليا مع مفكرين نحترمهم ونرجو استمرارهم - هو أن تلك الكتابات الجادة والعلمية استمرت تستمرئ الجلوس تحت مظلة الماضي السحرية، تستمتع برطب مناخه، وسهولة تناول مادته العلمية - على غزارتها - مع بعض الأمان، وربما كل الأمان إن لزم ظرف يلزم بالتراجعات. وعليه فإن أساتذتنا هؤلاء عادة ما نظروا إلى تراث الأمة بحسبانه ذا مبتدأ زمكاني محدد، فقد تحدد مكانيا بأرض الحجاز في جزيرة العرب «وهنا العروبة»، وتحدد زمانيا مع لحظة التواصل بين السماء والأرض عند ابتداء الوحي القرآني «وهنا الإسلام»؛ ومن ثم فإن التراث يبدأ من تلك اللحظة في ذلك المكان، ويتحول فيما بعد إلى تراث لكل الدول التي خضعت للفتح الإسلامي، باعتباره تراث الفاتحين، مع قطع شعوب هذه الدول عن تراثها القديم، بحسبانه كفرا أو مروقا وعبادة لغير الواحد القهار، أو بالتعبير الطريف: إن كان يخالف القرآن فليحرق لأنه رأي مخالف أي كفر، وإن كان يوافقه، فلا داعي له لأن لدينا القرآن، وليحرق!
وبعض هؤلاء الباحثين لم يبعد عن لحظة تدوين التراث الإسلامي أكثر من بضع سنين قبل الإسلام، ولم يتحرك خارج الحاجز العربي الإسلامي المكاني، أما من عمد منهم إلى ما قبل ذلك خلال حقب الإمبراطوريات القديمة في حوض المتوسط الشرقي، فقد وضع نصب عينيه «عربنة» ذلك التراث، وسحب المصطلح العروبي عليه جميعا، من باب أنه كان روافد متعددة لصيغة واحدة، هي صيغة الشعوب السامية، ومعلوم أن للمنهج العلمي في هذا النزوع للإثبات والغرضية المسبقة موقفا معلوما.
لكن ما قلناه لا ينفي أن تلك البحوث الرائدة قد طرحت - وربما لأول مرة - ذلك التراث على مائدة المنهج العلمي، وعالجت ظرفه الموضوعي، بحيث نزعته من مفارقته وفضائيته لتربطه بواقعه وبزمنه وبظرفه، كما تضمنت محاولات ابتدائية لتحديد هويتنا في مقابل الآخرين، مع تأصيل هذه الهوية بربطها بجذورها الماضوية، كما أبانت لنا عن مدى وعينا بالتاريخ، ومدى علميتنا في تناول هذا التاريخ، وكم وحدات التذكر التاريخي لدينا، إضافة إلى إجابات متباينة عن تساؤلات عما يجب إلقاؤه من التراث وعما يجب الإبقاء عليه؟ وهل نعيد كتابة التراث أم نكتفي بقراءة ما يصلح لواقعنا فيه؟ وهي في النهاية تلقي الضوء على الاصطلاح العروبي، وهل تسمح مساحته بتغطية كافة شعوب الأمة بحسبانها أمة واحدة؟ أم مجموعة شعوب ارتبطت بالعروبة رغم خصوصية كل منها، أم مجموعة شعوب لا يجمعها سوى اللسان العربي؟ أما الأهم من كل هذا، فهو أنها بتناميها ووجودها على الساحة الفكرية، قدمت إصرارا على نفي العدمية التراثية، كما أدت في مجموعها إلى معنى مهم هو: أن أي تراث لأي مجتمع لا يمكن أن يتطور دون توارث، والتراث هو - لغة - إرث موروث عن الأسلاف، تركوا لنا فيه ناتج خبراتهم ومعارفهم؛ لنصل إلى أن التراث كموروث، متطور وفاعل ومنفعل دوما، أي إن الناس هم صناع ذلك التراث، يصوغونه وفق ظروفهم وحاجاتهم، وأن أية نقلة تطورية على سلم التراث لا بد أن تسبقها نقلة على الدرجة الأدنى، ويستحيل دونها الوصول للدرجة الأعلى، أو بمعنى آخر أن أي تطور ثقافي لأي مجتمع لا يمكن حدوثه إلا على أسس وأعمدة ثقافية سابقة. كما لا يغيب عنا أن ذلك التطور كما جاء رأسا صاعدا على تلك العمد القديمة، فإنه أيضا كان يقوم إبان ذلك التطور الرأسي بتوسع أفقي يفجر فيه - مع كل نقلة - الأسوار والتحديدات القديمة، من أفكار ومعتقدات لم تعد مناسبة لاحتواء الظرف التطوري الجديد، ولم تعد صالحة كوعاء مناسب للتراكم المعرفي المتزايد، ولم تعد صالحة لمعالجة إشكاليات مستجدة لم تكن معروفة من قبل، ويفرضها التطور الجديد للأشكال الاقتصادية والتنظيمات الاجتماعية.
وعليه، فمن الضروري أن نحدد زوايا رؤيتنا وموقفنا من مفهوم الثقافة والتراث، فالتراث لدينا - حسب المنطق العلمي - هو ناتج تراكمي كمي وكيفي لخبرات طويلة، تعود إلى بدء استقرار الإنسان على الأرض وارتباطه بها، وأن هذه الثقافة ناتج تفاعل جدلي داخل هذا المجتمع. وبينه وبين بيئته الطبيعية، وبينه وبين المجتمعات الأخرى، والثقافات التي تتيح لها الأحداث أن تتماس مع ثقافته، عبر تطور زمني، يشكل في النهاية منظومة فكرية، تندرج في إطارها مفاهيمه الاجتماعية، وتتشكل في ضوئها أنماطه السلوكية.
وإذا كان معلوما أن أشكال التنظيمات الاجتماعية، والتشكيلات الاقتصادية، والأشكال السياسية، تتغير وتتفاوت سماتها داخل المجتمع الواحد، بتفاوت الأزمنة وبالتراكم المعرفي المستمر والخبرات المستجدة؛ نتيجة عوامل شديدة التعقيد، كثيفة الروافد، فإن ذلك لا ينفي أبدا أن هذه العوامل مجتمعة تشكل بنية ثقافية ذات تميز وخصوصية، تطبع العقل الجماعي بسماتها، ويتخذ مواقفه المصيرية على أساس منها، وبتأثيرها اللاواعي على أساليب تفكيره أحيانا، بل إن أكثر مكونات البنية الثقافية إيغالا في القدم، يظل حاضرا في قوامها، وإن تفاوت هذا الحضور بين السفور، وبين التخفي داخل أنسقة جديدة، ويتخذ لإثبات وجوده أشكالا متعددة متباينة، حتى يمكن القول بتأثير مثل تلك العناصر الثقافية بالراسب الثقافي في خيارات الجماهير السياسية.
ومن هنا كنا دائما على اقتناع بأهمية دراسة التراث القديم، ودوره الفاعل، والوجوه التي يكشف فيها عن نفسه اليوم، وقدمنا في ذلك بعض البحوث الحذرة، التي تقوم على اعتبار أن التراث ليس مرحلة بعينها، ولا يقتصر على نسق بذاته، إزاء ما لاحظناه من إهمال الباحثين للتراث القديم، كما لو كان مرحلة ميتة، منتهية، منقطعة الصلة بالحاضر؛ مما أعطانا انطباعا عن سريان اقتناع بانفصالية في تاريخنا، بين مرحلتين لا علاقة بينهما: ثقافة الحضارات «المندثرة!» وبين ثقافة الحضارة العربية الإسلامية.
صفحة غير معروفة