بقوة ورسوخ يكفي لانتزاع الإجماع، فحتى إذا أصيب البشر جميعا بالجنون بدرجة متساوية فسيكون بوسعهم الاتفاق فيما بينهم اتفاقا كبيرا. ••• (28) الحق أن «الاستباقات» أقوى بكثير على كسب الإجماع من «التفسيرات»، فلأنها مستقاة من أمثلة قليلة (شائعة مألوفة في الأغلب) فهي تمس الفهم على الفور وتملأ المخيلة، على حين أن التفسيرات - إذ تستجمع وقائع شديدة التنوع والتناثر - لا يمكنها أن تنفذ إلى الفهم للتو، ومن ثم فلا مناص لها من أن تبدو للنظرة الشائعة شيئا صعبا وناشزا وأشبه بأسرار الإيمان. ••• (29) يحق للعلوم القائمة على الآراء والاعتقادات أن تستخدم «الاستباقات» والجدل؛ ذلك أن غايتها أن تفرض القبول (بالقضية) لا السيطرة على الأشياء. ••• (30) حتى لو اجتمعت كل العقول من كل العصور وتآزرت جهودها جميعا فلن يتحقق تقدم كبير في العلم من طريق «الاستباقات»؛ ذلك أن الأغلاط المتجذرة في جبلة العقل الأولى لا سبيل إلى الشفاء منها بأية جهود أو علاجات لاحقة مهما بلغت عبقريتها. ••• (31) من العبث أن نتوقع أي تقدم كبير في العلوم من عملية إضافة وتطعيم
8
أشياء جديدة على القديمة، لا بد لنا من بداية جديدة
9
تتناول الأسس نفسها إذا شئنا ألا نظل ندور إلى الأبد في حلقة لا تفضي إلى أي تقدم يذكر. ••• (32) كرامة المؤلفين القدماء محفوظة، وكذا كرامة الجميع، فنحن لا ندخل في مقارنة من حيث العقول أو الملكات، بل مقارنة في الطرق والمناهج، ونحن لا نضطلع بدور القاضي بل بدور المرشد. ••• (33) فلنقلها صراحة: ليس ثمة حكم صائب يمكن إصداره على منهجنا ولا على الكشوف الناجمة عنه بواسطة تلك «الاستباقات» التي تشكل طريقة التفكير السائدة في الوقت الحالي، فليس ثمة ما يحملنا على أن نتقبل حكم المنهج الذي هو نفسه يحاكم.
10 ••• (34) ولا هو بالأمر السهل أن نشرح أو نفسر ما نحن بصدده؛ ذلك أن كل ما هو جديد سيظل يفهم من خلال الإشارة إلى ما هو قديم. ••• (35) كان بورجيا
11
يقول عن حملة الفرنسيين إلى إيطاليا: إنهم جاءوا بطباشير في أيديهم كي يسموا بها مساكنهم، وليس بأسلحة كي يقتحموا بها طريقهم، وبنفس الطريقة أريد لفلسفتي أن تنفذ بهدوء إلى العقول الممهدة لتلقيها، فلا محل للدحوضات ما دمنا نختلف في المبادئ الأولى وفي الأفكار ذاتها، بل وحتى في صور البرهان. ••• (36) ليس أمامنا سوى طريقة واحدة بسيطة لطرح قضيتنا: هي أن نضع الناس وجها لوجه أمام الجزئيات نفسها وأمام تسلسلها ونظامها المطرد، وعليهم بدورهم أن يتخلوا برهة عن أفكارهم ويبدءوا في التعارف مع الأشياء. ••• (37) يتفق منهجنا في بداية الطريق بعض الشيء مع منهج أولئك الذين أنكروا إمكان الوصول إلى اليقين، غير أنهما يفترقان في النهاية غاية الاختلاف ويتعارضان كل التعارض، فهم يذهبون ببساطة إلى أننا لا يمكننا أن نعرف شيئا، وأنا أيضا أذهب إلى أننا لا يمكننا أن نعرف شيئا يذكر في الطبيعة بواسطة المنهج المستخدم الآن، إلا أنهم يمضون إذاك لكي يدمروا سلطة الحس والفهم، بينما نمضي نحن لكي نبتكر لهما مساعدات ونزودهما بدعائم. ••• (38) تلك الأوهام والتصورات الزائفة - التي استحوذت على الذهن البشري وما زالت متجذرة فيه بعمق - لا ترين فقط على عقول البشر فلا تجد الحقيقة منفذا إليها، بل حتى إذا وجدت الحقيقة منفذا فإن هذه الأوهام سوف تلاحقنا مرة أخرى في عملية تجديد العلوم نفسها، وتضع أمامنا العوائق ما لم يأخذ البشر حذرهم ويحصنوا أنفسهم منها قدر ما يستطيعون. ••• (39) ثمة أربعة أنواع من «الأوهام»
12
تحدق بالعقل البشري، وقد قيضت لكل منها اسما بغرض التمييز بينها، فأطلقت على النوع الأول: «أوهام القبيلة»
صفحة غير معروفة