acatalepsia (الشك)، غير أن ما أقصده وما أدعو إليه ليس الأكاتالبسيا «الشك» (إنكار قدرة العقل على فهم الحقيقة)، بل اليوكاتالبسيا «الاعتقاد السليم» (تأهيل العقل للفهم الصحيح)، فأنا لا أنتقص من سلطة الحواس بل أعينها بمساعدات، ولا أستهين بالفهم بل أنظمه، ولأن نعرف بقدر ما يلزمنا أن نعرف ثم نرى أن معرفتنا ناقصة خير من أن نرى أن معرفتنا كاملة ثم لا نعرف أي شيء تلزمنا معرفته. ••• (127) كذلك قد يسأل البعض (من باب التشكك لا من باب الاعتراض) عما إذا كان منهجي معنيا بإنهاض العلم الطبيعي وحده أم يهدف أيضا إلى إنهاض العلوم الأخرى كالمنطق والأخلاق والسياسة، إنني بالتأكيد أهدف من منهجي أن ينسحب على العلوم جميعا، ومثلما أن المنطق الشائع الذي ينظم الأمور بواسطة القياس لا يقتصر على العلم الطبيعي بل يمتد ليشمل كل العلوم، فإن منهجي الاستقرائي هو أيضا يشملها جميعا، فأنا أضع تاريخا وقوائم كشف للغضب والخوف والخجل وما شابهها وللأمور السياسية، وكذلك للعمليات العقلية للذاكرة والتركيب والتقسيم
94
والحكم وما شاكلها، تماما كما أضع للحرارة والبرودة أو للضوء أو النمو النباتي ... إلخ، ولكن لما كان منهجي التفسيري بعد إعداد التاريخ واستيفائه لا يقتصر على عمل العاقل وخطابه فحسب (كما يفعل المنطق الشائع) - بل يشمل أيضا طبائع الأشياء - فقد زودت العقل بقواعد وتنظيم بحيث يعمل نفسه في كل شأن على نحو ملائم لذلك الشأن؛ ولهذا فقد قدمت قواعد كثيرة ومتنوعة في مذهبي التفسيري بحيث تكيف منهج الكشف - بدرجة ما - وفقا لنوعية موضوع البحث وحالته. ••• (128) وليس لأحد أن يتشكك في موقفي من الفلسفة والفنون والعلوم القائمة ويظن أني راغب في تدميرها، فأنا أبعد ما أكون عن ذلك، بل يسرني أن أراها تستخدم وتنمى وتقدر، فأنا لا أتدخل بأي حال لتثبيط هذه الفنون الرائجة عن أن تستخدم لإثراء المناقشة وتجميل الخطاب، وأن تكون في خدمة الأساتذة ورجال الأعمال، وأن تحظى بالقبول العام كنوع من العملة المتداولة، بل إني أعلن بوضوح أن ما أقدمه الآن لا يصلح لهذه الأغراض، إذ هو غير مهيأ لكي تفهمه العامة إلا من خلال نتائجه وآثاره، أما عن تعاطفي الصادق ونيتي الحسنة تجاه العلوم السائدة فهو شيء تشهد به كتاباتي المنشورة (وبخاصة «في النهوض بالعلم»
On the advancement of learning ) شهادة تغنيني عن الكلام، وأكتفي بأن أنبه علانية وبغير انقطاع أن المناهج المستخدمة حاليا لا يمكن أن تؤدي إلى تقدم كبير في الجانب النظري والتأملي من العلم، ولا إلى آثار (عملية) واسعة النطاق. ••• (129) يبقى أن أقول بضعة أشياء عن نبل الغرض (من عملي هذا)، وإذا كنت قد عرضت قبلا لهذه الأشياء، فربما بدا ذلك من جانبي مجرد أماني، فأما وقد أحييت الأمل وأزلت التحيزات، فلعلها تكون الآن أثقل وزنا، وإذا كنت قد أكملت العمل بنفسي دون أن أهيب بأحد أن يشارك بقسط فيه وأن يمد إلي يد العون، فإن علي الآن أن أقلع عن ذلك؛ لئلا يظن بي ادعاء التميز والاستحقاق، إنما يليق بي أن أستدعي إلى ذاكرة الناس نقاطا معينة ما دمت أريد أن أثير همتهم وأشعل حماستهم.
أولها إذن أن إدخال اختراعات كبيرة هو العمل الذي يحتل المكانة الأولى، غير مدافع، بين الأعمال البشرية جميعا، وهكذا كان رأي القدماء فيه، فقد كانوا يخلعون على أصحاب الاختراعات ألقاب الشرف الإلهية، بينما يعزون أمجادا بطولية فحسب لأصحاب الإنجازات السياسية الكبرى (مثل مؤسسي المدن والإمبراطوريات والمشرعين ومحرري أوطانهم من المحن المقيمة وقاهري الطغاة ومن إليهم)، ومن يقارن بين الفصيلين مقارنة عادلة سيجد أن القدماء كانوا على حق في حكمهم؛ ذلك أن منافع الاختراعات تعم الجنس البشري كله، أما المنافع السياسية فهي مقصورة على مناطق بعينها، وهي لا تدوم إلا زمنا، بنيما تدوم منافع الاختراعات إلى أبد الدهر، كما أن الإصلاح السياسي قلما يتم دون عنف واضطراب، أما الاختراعات فإنها تسبغ نعمة وتقدم منفعة دون أن تلحق بأحد أي أذى أو ضرر.
كما أن الاختراعات هي ضروب من الخلق الجديد، ومن المحاكاة للأعمال الإلهية، وكما قال الشاعر:
95 «كانت أثينا - تمجد اسمها - ذات يوم هي أول من منح الجنس البشري البائس حصادا مثمرا، وأعاد خلق حياتهم، وصنع لهم قوانين.»
وهنا لا ننسى أن سليمان رغم سطوته وذهبه وأعماله العظيمة وبلاطه وخدمه وأسطوله وبهاء اسمه وإعجاب البشر غير المحدود به، لم يكن يعد مجده في أي شيء من ذلك، بل كان يعلن أن «مجد الله أن يخفي شيئا ما، ولكن مجد الملك أن يكتشفه.»
وفضلا عن ذلك، فليتأمل أي شخص في الفارق الهائل بين حياة الناس في أرقى البلاد الأوروبية وحياتهم في أي منطقة همجية وبربرية من مناطق الهند الجديدة، ولسوف يجد أن الفارق قد بلغ من الضخامة بحيث يصح أن يقال: إن «الإنسان إله للإنسان.»
96
صفحة غير معروفة