وباختصار أقول لأولئك الذين يزدرون أي جزء من التاريخ الطبيعي باعتباره مبتذلا أو وضيعا أو مفرط الدقة والرهافة أو غير مفيد في بدايته، أقول لهم ما قالته امرأة فقيرة لملك متغطرس
87
رفض الإصغاء إلى طلبها بوصفه شيئا تافها ولا يليق بجلالته: «كف إذن عن أن تكون ملكا.» فمن المؤكد أن من لن يلتفت إلى أشياء مثل هذه على أنها تافهة وضئيلة فلن يفوز بمملكة الطبيعة ولن يحكمها. ••• (122) سيعترض أيضا بأنه من الغرابة والفظاظة أن نتخلص من جميع العلوم وجميع الثقات مرة واحدة وبضربة واحدة، ولا نستعين بأي من القدماء، بل نعتمد على قوتنا الخاصة.
ولكني أعلم أنني لو كنت اخترت أن أكون أقل صدقا لما كان صعبا علي أن أعزو منهجي الحالي إلى القرون القديمة قبل اليونان (عندما كان العلم الطبيعي ربما أكثر ازدهارا وإن كان أقل صخبا، قبل أن يتوصل إلى مزامير اليونان وطبولهم)، أو حتى أعزوه - في شطر منه - إلى بعض اليونان أنفسهم، فأكون قد كسبت منهم العون والمجد معا، كشأن محدثي النعمة؛ إذ ينتحلون لأنفسهم شرف التحذر من سلالة ما عريقة بمساعدة علوم الأنساب،
88
ولكني أستند إلى بينة الأشياء، وأرفض كل صنف من الخيال والادعاء، ولا أعتقد أنه يهم لعملي الحالي هل الكشوف التي ستأتي كانت ذات يوم معروفة للقدماء وجعلت تغيب وتعود مع تقلبات الأشياء وكر العصور، لا يهم هذا لعملي أكثر مما يهم للجنس البشري ما إذا كان العالم الجديد هو جزيرة أطلنطا
89
الشهيرة التي عرفها القدماء أم هو أرض جديدة تكتشف الآن للمرة الأولى؛ ذلك أن الكشوف الجديدة يجب أن تؤخذ من نور الطبيعة، لا أن تسترد من غياهب القدم.
أما عن نقدي العام للعلوم القديمة، فمن الواضح تماما للنظرة المنصفة أن هذا الشجب ليس فقط أكثر قبولا، بل أيضا أكثر تواضعا مما كان يمكن أن يكونه أي شجب متحيز، فلو لم تكن الأخطاء متجذرة في التصورات الأولية لكان هناك بالضرورة بعض الاكتشافات الصحيحة، ولقدر لهذه الاكتشافات الصحيحة أن تقوم الاكتشافات الخاطئة، ولكن لأن الأخطاء كانت أساسية، ومن طبيعة أدت بالناس إلى أن تغفل الأشياء وتعمى عنها لا أن تحكم عليها حكما متهافتا أو غير صحيح، فلا عجب إذا كان الناس لم يبلغوا ما لم يحاولوه، ولم يدركوا هدفا لم يحددوه، ولم يكملوا سباقا لم يدخلوه ولم يخوضوه.
وأما عن الغطرسة المتضمنة فيه فأقول: من المؤكد أنه إذا ادعى شخص أنه يستطيع رسم خط أكثر استقامة أو دائرة أكثر اكتمالا مما يستطيعه أي شخص آخر بثبات اليد وحدة البصر، فإنه يدعو إلى منافسة للقدرات، أما إذا أقر شخص بأنه يستطيع رسم خط أكثر استقامة أو دائرة أكثر اكتمالا بمساعدة مسطرة أو فرجار، فمن المؤكد أنه لا يتفاخر على الإطلاق، ولننتبه إلى أن هذه الملاحظة لا تنطبق فحسب على محاولتي هذه التمهيدية، بل تنطبق أيضا على أولئك الذين يكرسون أنفسهم لهذا الموضوع في المستقبل؛ لأن منهجي الكشفي في العلوم يسوي بين الأذهان، ولا يترك للامتياز الفردي إلا القليل؛ لأنه يؤدي كل شيء بواسطة أوثق القواعد والبراهين؛ ولذا فأنا أعزو إسهامي - كما قلت مرارا - إلى الحظ لا إلى القدرة، وأعده سليل الزمن لا الذكاء، فهناك - بلا شك - عنصر من المصادقة في أفكار الناس لا يقل عما في أعمالهم وأفعالهم. ••• (123) لذا يجب أن أطلق على نفسي النكتة القديمة (إذ إنها تصيب كبد المسألة): «شارب الماء وشارب النبيذ لا يمكن أن يفكرا بنفس الطريقة.»
صفحة غير معروفة