ورغم أنه في قوائمي الكشفية (التي تشكل الجزء الرابع من «الإحياء»)، وفي أمثلة الأشياء الجزئية (التي قدمتها في الجزء الثاني)، وأيضا في ملاحظاتي في التاريخ (الذي وصفته في الجزء الثالث)، سيلاحظ أي قارئ متوسط الذكاء والاستبصار إشارات هنا وهناك وإلماعات إلى نتائج مهمة كثيرة، إلا أني أعترف بصدق أن التاريخ الطبيعي الذي بحوزتي الآن، سواء جمعته من الكتب أو من بحوثي الخاصة ليس من الكمال ودقة التحقيق بحيث يخدم أغراض تفسير مشروع.
ومن ثم فإذا كان هناك من هو أقدر في الأشياء الميكانيكية وأفضل تدريبا، ومن هو قدير في اصطياد النتائج من مجرد التعارف على التجارب ، فليضطلع بالمهمة الصعبة في جمع محصول جيد من تاريخي ومن قوائمي وهو في طريقه، ويستخدمها في إنتاج نتائج، آخذا عربونا مؤقتا حتى يتسنى له أخذ المبلغ، أما عني فإن لي هدفا أكبر، وأنا أنكر أي نشاط مبتسر وسابق لأوانه من هذا النوع، وأشجبه بوصفه «كرات أتلانتا»
85 (كما أحب أن أسميها)، أنا لا ألاحق كالطفل تفاحات ذهبية، بل أراهن على انتصار الفن على الطبيعة في السباق، ولا أنا متلهف على جز الطحلب أو قطع الذرة الخضراء، بل أنتظر الحصاد في إبانه. ••• (118) وسوف يخطر للبعض - بغير شك - عند قراءة التاريخ (الطبيعي) وقوائم الكشف الخاصة بي: أن هناك بعض أشياء في التجارب نفسها غير مؤكدة أو ربما خاطئة تماما، وربما يظن لهذا السبب أن اكتشافاتي تقوم على أسس ومبادئ خاطئة ومشكوك فيها، ولكن لا بأس في ذلك البتة، فمثل هذه الأمور لا مناص منها في البدايات، فهي أشبه بما يحدث في الكتابة أو الطباعة، إذ يتصادف أن يكون هناك حرف أو اثنان فيهما خلل أو انحراف، ولكنهما لا يسببان أي إزعاج للقارئ، إذ يتولى الحس تصحيحهما بسهولة، كذلك ينبغي أن يدرك الناس أن كثيرا من التجارب في التاريخ الطبيعي قد تكون اندرجت فيه بطريق الخطأ، والتي سرعان ما تتدارك بعد ذلك وتحذف عند اكتشاف العلل والمبادئ، ولكن من الحق رغم ذلك أنه إذا ما زادت هذه الأخطاء في التاريخ الطبيعي والتجارب وتكررت واستمرت، فلن يتسنى لأي حذق أو فن أن يصححها وينقحها، فإذا كان هناك أي أخطاء أو أغلاط في الجزئيات حتى في تاريخي الطبيعي الذي بحث وجمع بكل جد ودأب، ولعلي أقول بعناية دينية: فما بالكم بالتاريخ الطبيعي الشائع، المهمل والمهلهل بالقياس إلى تاريخي؟ أو بالفلسفة والعلوم المؤسسة على مثل هذه التربة الهشة (أو بالأحرى الرمال المتحركة)؟ ومن ثم فلا داعي للانزعاج من هذه الزاوية. ••• (119) وفي التاريخ (الطبيعي) والتجارب الخاصة بي سيكون هناك أيضا أشياء كثيرة تافهة وشائعة، وأخرى هابطة وفجة، وأخرى مفرطة الدقة وتأملية خالصة وغير ذات جدوى ، وقد يكون ذلك مدعاة لانصراف الناس.
بالنسبة للأشياء الشائعة يجب أن يدرك الناس أنهم دأبوا على أن يردوا علل الأشياء النادرة الحدوث إلى تلك الأكثر حدوثا، دون أي تمحيص لعلل هذه الأشياء الكثيرة الحدوث ذاتها، فهم يسلمون بها تسليما ويأخذونها على علاتها، وعليه فإنهم لا يدرسون علل الوزن ودوران الأجرام السماوية والحرارة والبرودة والخفة والصلابة والرخاوة والتخلخل والكثافة والسيولة والصلابة والحياة واللاحياة والتشابه والاختلاف والعضوية وما إلى ذلك؛ لا يبحثون علل كل ذلك، بل يسلمون بها كشيء جلي وواضح بذاته، بينما يتنازعون ويعملون الحكم حول أشياء أخرى أقل حدوثا وتواترا وإلفا.
ولكني أنا من يعرف جيدا أن من غير الممكن الحكم على الأشياء النادرة واللافتة - ناهيك بالأشياء الجديدة التي ظهرت إلى النور - ما لم تبحث أولا علل الأشياء الشائعة وعلل تلك العلل على نحو واف وتكتشف. أنا الذي أعرف ذلك كنت مضطرا إلى أن أفسح مكانا للأشياء المعتادة في تاريخي الطبيعي، بل في اعتقادي أنه لم يعرقل تقدم الفلسفة شيء مثلما عرقلها أن الأشياء المألوفة الكثيرة الحدوث لا تأسر انتباه الناس ولا تحظى بالتفاتهم وتأملهم بل يمرون عليها مرور الكرام، ولا يتساءلون عن عللها، إنما يلزمنا أن نولي انتباها للأشياء المعروفة أكثر مما يلزمنا أن نحصل معلومات عن الأشياء غير المعروفة. ••• (120) أما عن الأشياء الوضيعة أو حتى الدنسة - التي علينا (كما يقول بليني
pliny )
86
أن نعتذر عليها - فيجب أن ندرجها في التاريخ الطبيعي بما لا يقل عن أفخم الأشياء وأقيمها، فالتاريخ الطبيعي لا يتلوث منهما، فالشمس تدخل القصر والبالوعة دون تفرقة فلا تتلوث، نحن لا نبني أو نكرس كابيتولا أو هرما لزهو الإنسان، بل نضع أساسا في الفهم الإنساني لمعبد مقدس على غرار نموذج العالم. أنا إذن أتبع النموذج، فأيما شيء يستحق الوجود فهو يستحق المعرفة، فالمعرفة هي صورة الوجود، والأشياء الوضيعة والرفيعة موجودة على السواء، وفضلا عن ذلك فكما أن أفضل العطور يستخرج أحيانا من أشياء عفنة كشأن المسك والزباد، كذلك قد يصدر ضوء ومعرفة رائعان من أشياء وضيعة وقذرة ، ولكن بحسبنا هذا القدر، فمثل هذه الرهافة ما هي إلا طفولية وتخنث. ••• (121) ولكن هناك اعتراضا آخر ينبغي أن ننظر فيه بتمعن أكبر، وهو أن ثمة أجزاء كثيرة في هذا التاريخ (الطبيعي) ستبدو للفهم العام - أو لأي فهم معتاد على الأشياء الراهنة - دقيقة بشكل خيالي غير مفيد، ومن ثم فقد قلت منذ البداية بخصوص هذه المسألة، ويجب أن أكرر ثانية، أنني أبحث عن «تجارب النور لا تجارب الثمار»، مقتديا في ذلك بمثال الخلق الإلهي الذي برأ النور وحده في اليوم الأول، وقيض كل هذا اليوم لخلق النور ولم يزد عليه أي عمل مادي.
لذا فكل من يظن أن مثل هذه الأشياء غير مفيدة يشبه ذلك الذي يظن أن الضوء غير مفيد؛ لأنه ليس صلبا وليس ماديا، والحق أن معرفة الطبائع البسيطة بتمحيص ودقة هي أشبه بالضوء، فهو يقدم منفذا إلى كل أسرار مشغل الطبيعة، ولديه قدرة على أن يمسك ويجر وراءه فيالق كاملة وأرتالا من النتائج، ومصادر المبادئ الأعلى قيمة، وإن كان هو في ذاته غير ذي نفع كبير، كذلك الحال مع أحرف الأبجدية، فهي بذاتها وبمعزل لا معنى لها ولا فائدة، ولكنها مع ذلك بمثابة الخامة الأولى لتركيب وإعداد كل حديث، وكذلك بذور الأشياء، قيمتها الكامنة كبيرة، ولكنها لا نفع لها البتة إلا في نموها، وكذلك الأشعة المشتتة للضوء نفسه لا تؤتي فائدة ما لم تجمع وتتركز.
ولكن إذا تأذى أحد من الدقائق النظرية فماذا تراه يقول عن السكولائيين وانغماسهم المهول في الدقائق؟ لقد أهدروا تلك الدقائق في الألفاظ أو في التصورات العامة (وهي تئول إلى نفس الشيء)، وليس في الأشياء وفي الطبيعة، وكانت تلك الدقائق غير مثمرة لا في مبدئها ولا في منتهاها، ولا تشبه من قريب أو بعيد دقائقنا نحن التي هي غير مفيدة في البداية ولكن نتائجها ذات فوائد لا نهائية، فليعلم الناس علم اليقين أن كل حذق في الجدل والاستدلال لا يؤتى به إلا بعد أن يتم اكتشاف المبادئ إنما هو حذق بائر في غير موضعه ، أما الوقت الصحيح والمناسب للحذق أو أفضل وقت على كل حال فهو إبان روز الخبرة وتقييمها وتكوين المبادئ منها، أما النوع الآخر من الحذق فهو إن أمسك بالطبيعة أو تشبث بها فهيهات له أن يقبض عليها أو يأسرها. إن الطبيعة ليصدق فيها كل الصدق ما قيل في الحظ أو الفرصة: «لها من الأمام خصلة، ولكنها من الخلف صلعاء.»
صفحة غير معروفة