82 ••• (114) أخيرا، حتى لو باتت نسمة الأمل الآتية من هذه «القارة الجديدة» أوهن وأخفت بكثير، فما زلت أعتقد أن علينا أن نحاول بأي شكل (إلا إذا شئنا أن نركن للضعة)؛ ذلك أن ما نخسره من عدم المحاولة يفوق كثيرا ما نخسره من عدم النجاح، فعدم المحاولة من شأنه أن يضيع علينا احتمال أن نجني خيرا هائلا، أما عدم النجاح فلن نخسر منه إلا القليل من الجهد الإنساني، ولكن استنادا إلى ما قلته وإلى كثير غيره لم أقله فإنه يبدو لي أن لدينا ما يدعونا إلى الأمل الكبير، لا يدعو الجسورين فحسب إلى المحاولة، بل ويدعو الحذرين المتحرزين إلى التصديق. ••• (115) ها قد انتهيت من الحديث عن إزالة اليأس، اليأس الذي كان من أقوى الأسباب التي عطلت وأخرت تقدم العلوم، وأكملت عرضي لعلامات الخطأ وأسبابه، وللعطالة والجهل السائدين، وأرجعت الأسباب الأكثر خفاء - والتي تند عن إدراك العامة وملاحظتهم - إلى ما قيل عن «أوهام العقل».
هنا أيضا ينبغي أن أختتم الجزء الهدمي من «الإحياء»
Instauration ، والذي يتكون من ثلاثة تفنيدات: (1) تفنيد العقل الإنساني الطبيعي حين يترك على سجيته. (2) تفنيد البراهين. (3) تفنيد النظريات أو الفلسفات والمذاهب السائدة. وقد كان تفنيدي لها مثلما أمكن أن يكون، أي يكشف علامات الخطأ وتقديم بينة عن أسبابه، وهذا هو الشكل الوحيد المتاح لي من التفنيد ما دمت لا أتفق مع غيري حول مبادئ البرهان وصوره.
لذا فقد حان الوقت لأن نأتي إلى الفن نفسه وإلى معيار تفسير الطبيعة، ولكن تبقى هناك ملاحظة مبدئية ينبغي ألا تفوتنا، فبينما هدفت من هذا الكتاب الأول من الشذور إلى أن أعد عقول الناس لفهم وتقبل ما سيأتي، فالآن وقد طهرت العقل وصقلته وسويته، يبقى علي أن أضع العقل في وضع جيد، وبواجهة مواتية (إن شئت) لما سوف أعرض أمامه؛ ذلك أنه في أي عمل جديد لا يأتي التحيز فقط من تأثير رأي قديم مسيطر، بل أيضا من استباق أو توقع زائف للشيء الجديد الذي يقدم، ومن ثم فقد حرصت على أن أبث انطباعات جيدة وصحيحة عن الأشياء التي أقدمها، حتى لو كان هذا من باب التشويق فحسب، حتى تتم رؤية الشيء نفسه على نحو واضح مكتمل. ••• (116) أود إذن قبل كل شيء ألا يفترض أحد أنني أطمح إلى تأسيس أي مذهب فلسفي على طريقة قدامى اليونان أو بعض المحدثين من أمثال: تيليزيوس أو باتريزي أو سيفيرينوس،
83
إذ ليس هذا هدفي، ولا أنا أعتقد أنه يهم كثيرا لمصائر الناس ماذا يضمر المرء من تصورات مجردة عن الطبيعة وعن مبادئ الأشياء، لا شك هناك أن كثيرا من مثل هذه الآراء القديمة قد يعاد إلى الحياة، وأن أفكارا جديدة قد تدخل، تماما مثلما يمكن أن نفترض نظريات كثيرة عن السماء، والتي توافق الظواهر إلى حد كبير ولكنها غير متوافقة إحداها مع الأخرى.
وهكذا فإن جهدي ليس منصبا على هذه الأمور النظرية والعقيمة في الوقت نفسه، وإنما هدفي على العكس هو أن أحاول إيجاد أساس أمتن لقدرة الإنسان وعظمته، ومد حدودهما إلى آماد أوسع، ورغم أن لدي - في موضوعات معينة وبصورة غير كاملة - نتائج أعتبرها أصوب وأوثق كثيرا وأنفع أيضا من تلك السائدة (وقد جمعت هذا في الجزء الخامس من كتابي «الإحياء»
Instauration )، ولا أنا آمل أن أعمر حتى أكمل الجزء السادس من «الإحياء» (المقيض للفلسفة المكتشفة بواسطة التفسير المشروع للطبيعة)، بل أقنع لو أني مضيت - بخطى رزينة ومثمرة - في الأجزاء الوسطى من مسعاي، ناثرا للأجيال المقبلة بذور حقيقة أكمل، ومؤديا دوري في افتتاح المشروع العظيم.
84 ••• (117) وكما أني لا أدعي أني أؤسس مذهبا، كذلك أنا لا أقدم ولا أعد بتقديم نتائج معينة، ومن ثم قد يعترض البعض قائلا: أنت يا من تكثر من الحديث عن النتائج وتعلق كل شيء على هذه الغاية، ألا يليق بك أن تقدم أيضا بعض عينات منها؟! غير أن طريقتي ومنهجي (كما قلت كثيرا بوضوح، وكما يسرني أن أكرر) ليس أن أستخلص نتائج من نتائج أو تجارب من تجارب (مثلما يفعل التجريبيون العشوائيون
empiricis )، بل من النتائج والتجارب أستخلص العلل والمبادئ، ومن تلك العلل والمبادئ أعود فأستخلص نتائج وتجارب عديدة، شأن مفسر شرعي للطبيعة.
صفحة غير معروفة