في الوقت الحالي فهي طريقة عمياء بلهاء، ومن ثم فإنهم يهيمون ويتخبطون دون أي مسار واضح، مرتهنين للمصادفات يتأدون منها هنا وهناك دون أن يحرزوا تقدما يذكر، وهم - بين رجاء حينا وتشتت حينا آخر - يجدون دائما بارقا جديدا يسعون نحوه؛ ذلك أن الناس في الأغلب يجرون تجاربهم بغير اكتراث ولا جدية، واضعين تنويعات ضئيلة على التجارب المعروفة بالفعل، فإذا لم تجبهم التجربة بشيء تبرموا بها وأقلعوا عن المحاولة، وحتى عندما يكبون على عملهم بجد وكد ومثابرة فإنهم يهدرون وقتهم في سبر موضوع واحد معين، كشأن جلبرت مع المغناطيس، وشأن الخيميائيين مع الذهب. مثل هذا المسلك لا ينم فحسب على غياب المهارة بل أيضا على غياب الرؤية: فما كان لأحد أن ينجح في كشف طبيعة شيء ما بالنظر إلى الشيء وحده، بل لا بد للبحث من أن يكون نطاقه أوسع ومجال رؤيته أعم.
وحتى عندما يشيد الناس نوعا ما من العلم والنظرية على التجارب، فإنهم - في الأغلب - يهرعون بحماس أهوج إلى التطبيق العملي، لا لكي يجنوا منها ثمارا مرتقبة فحسب، بل لكي يجدوا توكيدا في شكل نتاج جديد بأن سعيهم جدير بالمواصلة ولن يكون مضيعة للوقت، بالإضافة إلى توطيد شهرتهم واكتساب صيت جيد لمجال عملهم، هم إذن أشبه بأتالانتا
Atalanta
يتركون طريقهم لكي يلتقطوا التفاحة الذهبية فيقطعون العدو ويفوتهم الفوز. إنما علينا - في دأبنا على الطريق الصحيح للتجربة ومواصلته لبلوغ نتائج جديدة - أن نقتدي بالحكمة والتدبير الإلهيين: ففي اليوم الأول للخلق اكتفى الرب بخلق النور وكرس يوما كاملا لهذا العمل، ولم يخلق أي شيء مادي في ذلك اليوم، نحن أيضا علينا أولا أن نحاول - بشتى ضروب التجارب - أن نكتشف العلل والمبادئ (القوانين) الحقيقية، وأن نلتمس التجارب التي تقدم النور لا الأثمار، فما إن يتم اكتشاف المبادئ وصياغتها على نحو صحيح حتى تقدم للممارسة عونا هائلا لا محدودا، وتجر وراءها أرتالا غفيرة من النتائج، وسوف نعرض لاحقا لطرق التجربة التي سدت وقطعت مثلما سدت طرق الحكم، فأنا لم أقل حتى الآن إلا أن البحث التجريبي المعتاد هو نوع رديء من البرهان، غير أن المقام يقتضيني أن أضيف شيئا ما عن العلامات التي سبق ذكرها والتي تشير إلى أن الفلسفات والملاحظات المستخدمة الآن عاجزة، وعن أسباب ما يبدو للوهلة الأولى عجيبا لا يصدق، فمعرفة هذه العلامات الخارجية تمهد للتصديق، وتفسير الأسباب يزيل العجب، وهذان الشيئان مفيدان غاية الفائدة في تطهير الذهن من الأوهام بسهولة ويسر. ••• (71) تأتي العلوم التي لدينا - في معظمها - من اليونان؛ إذ إن ما أضافه الرومان والعرب أو الكتاب الأحدث هو شيء قليل ومحدود الأهمية، ومبني كيفما كان على أساس من كشوف اليونان،
45
إلا أن حكمة اليونان كانت احترافية وميالة إلى الجدل، وذاك لون من الحكمة معاكس للبحث عن الحقيقة، وهكذا فإن اسم «السوفسطائيين» الذي رفضه بازدراء أولئك الذين ودوا أن يعتبروا فلاسفة وأطلقوه على الخطباء: جورجياس، بروتاجوراس، هيبياس، بولس
، هذا الاسم يمكن أن ينطبق على العشيرة بأكملها: أفلاطون وأرسطو وزينون وأبيقور وثيوفراسطس، وخلفهم كريسبوس وكارنيادس والبقية، والفارق الوحيد بين أولئك وهؤلاء هو أن الأولين كانوا مرتزقة جوالين يطوفون بين البلدان المختلفة ويعرضون حكمتهم ويطلبون أجرا عليها، في حين أن الآخرين كانوا أكثر تبجيلا وسعة، إذ كانت لهم مقارهم الثابتة ومدارسهم المفتوحة، وكانوا يعلمون الفلسفة دون مقابل، إلا أن كلتا المجموعتين (رغم اختلافهما في الجوانب الأخرى) كانت احترافية، وتحول كل موضوع إلى مجادلات، وتؤسس مذاهب وعقائد فلسفية وتنافح عنها، ومن ثم كانت مذاهبهم في معظمها (مثلما قال ديونيزيوس - بحق - عن أفلاطون): «حديث عجائز متبطلين إلى شبان جاهلين.»
46
على أن اليونانيين الأقدم مثل أنبدوقليس وأنكساجوراس وليوسيبوس وديمقريطس وبارمنيدس وهيراقليطس وزينوفان وفيلولاس والآخرين (وأنا أستثني فيثاغوراس باعتباره مشعوذا) لم يفتحوا مدارس على حد علمي، بل نذروا أنفسهم للبحث عن الحقيقة في صمت وجدية وبساطة أكثر: أي بادعاء واستعراض أقل؛ لذا فقد كانوا - في رأيي - أكثر نجاحا، لولا أن أعمالهم قد غشت عليها بمرور الزمن تلك الأعمال الأقل وزنا التي راقت أفهام السوقة وأذواقهم، فالزمن (كالنهر) يجلب لنا ما هو خفيف منتفخ ويغرق ما هو ثقيل صلب،
47
صفحة غير معروفة