فقبض فوكاس على موريس وأبنائه وقتلهم. فلما بلغ هذا الأمر إلى مسامع ملك الفرس غضب ونهض لمحاربة فوكاس، وذلك لسببين: الأول: الانتقام منه لموريس الذي أحسن إليه، والثاني: لاغتنام هذه الفرصة وتوسيع أملاكه. فدخل جيش الفرس يومئذ إلى سوريا فاتحا، وفي أثناء ذلك ظهر ضعف فوكاس، وسخط عليه الناس، فكاتبوا رجلا من أكابر قواد الجيش كان والي أفريقيا ويدعى «هراقليوس» أن يأتي إليهم ليخلعوا فوكاس ويولوه، وكان لهذا الوالي ابن يدعى أيضا هراقليوس وابن أخ يدعى نيستاس. فجهز هراقليوس الابن أسطولا عظيما وحشد نيستاس جيشا كثيفا، واتفقا على الزحف إلى القسطنطينية لإسقاط فوكاس. الأول بحرا والثاني برا عن طريق مصر وسوريا، وتعاهدا على أن الذي يسبق إلى العاصمة تكون المملكة له. فسبق إليها هراقليوس الابن بأسطوله فخلع فوكاس أعداؤه وقتلوه، وولوا هراقليوس مكانه، وهو الإمبراطور الحاضر.
وما مرت أربع سنوات على ملك الإمبراطور حتى فتح الفرس سوريا ومصر، واستولى قائدهم شهرباز الملقب «بالجاموس الملكي» على هذه المدينة (القدس) فأحرق كنيسة القيامة، وأخذ منها الصليب الحقيقي.
5
ثم اشتد الاضطراب في السلطنة، وقام أنصار فوكاس يطلبون ثأره، وتوفيت زوجة الإمبراطور فتزوج ثانية بأخت زوجته خلافا لنظام الكنيسة، وكان الإمبراطور فقيرا لا يملك مالا ينظم به أمور ملكه. فيئس من هذه المصاعب، وعزم على الالتجاء إلى قرطجنة (تونس اليوم) ليتخذها قادة ملكه بدل القسطنطينية استراحة من الفتن، ولكن البطريرك سرجيوس شدد عزائمه، وأخذه إلى كنيسة آجيا صوفيا، وأجبره فيها على أن يقسم بأنه لا يترك العاصمة. فقوي عزم الإمبراطور، وبعث برسالة خصوصية إلى ملك الفرس يجامله فيها، ويطلب منه الصليب، ويسأله عقد الصلح. فأجابه كسرى برويز جوابا مهينا ثارت له الأمة كلها. ففتح البطريرك سرجيوس خزائن الكنيسة، وأخرج منها للإمبراطور الأموال اللازمة؛ لحشد الجند، وتهافت الناس من كل صوب على التطوع في سبيل استرداد الصليب، وفي ثاني يوم من عيد الفصح سنة 622 تناول الإمبراطور سر القربان في حفلة رسمية حافلة، وخرج من القسطنطينية بجيشه يطلب بلاد الفرس والحماس شديد في الأمة، وقد نزل بأسطوله وجيشه في عرصوص (قرب الإسكندرونة) وهو المكان الذي نزل فيه قبلا إسكندر الكبير لما قصده داريوس، وقد أحسن الإمبراطور بهذا الاختيار؛ لأن المقاتل يستطيع من ذلك المكان إصابة سلطنة الفرس في قلبها.
وكنت يومئذ أيها الأمير الجليل قائد مائة في هذا الجيش. فأجبرنا الفرس على الانسحاب من مصر وسوريا، وأخذنا نطاردهم من مكان إلى مكان والنصر حليفنا، وكانت الإمبراطورة معنا ترافق الإمبراطور لرغبتها في أن تكون أول من يسترد الصليب، وكان كسرى برويز قد نزل في فنزكا من أعمال أتروباتينا
6
بأربعين ألف مقاتل، وجعل باقي جنده تحت قيادة قائده الكبير سايس. فهاجمهما الإمبراطور وهو في طريقه يخرب المدن والقرى ويحرقها، ولما بلغ فنزكا فر كسرى من وجهه فدخلها الإمبراطور، وهدم هيكل الشمس المشهور الذي كان فيها، وحطم آلات صناعية كانت فيه تمثل انقضاض، الصاعقة ونزول المطر
7
ولما خاف انضمام الأتراك إلى الفرس تقرب إلى«زبيل» زعيم الترك، فقابله في تفليس، ووعده بأن يزوجه ابنته، وبذلك جعل الأتراك من حزبه، وبعد ست سنوات من سفره أي في سنة 628 وصل دستجرد عاصمة الفرس، ففر كسرى منها أيضا، فدخلها الإمبراطور، وأحرق تلك العاصمة الفاخرة، وبذلك تضعضعت مملكة الفرس فدبت بين أهلها عقارب الانحلال والفتنة، وأصيب كسرى بمرض عضال فأوصى بالملك لأحد أبنائه فقام عليه ابن آخر، فاستأثر بالأمر، وسجن أباه وعذبه حتى مات، وكتب هذا الابن فصالح الإمبراطور، ومن ذلك الحين اشتغلت مملكة الفرس بفتنها، واضطراباتها الداخلية.
أما الصليب فقد كان مخبوءا في فنزكا عاصمة عبادة النار، وقد دل عليه القائد شهرباز. فلما وجده الإمبراطور، ودخل به إلى القسطنطينية ظافرا ارتجت السلطنة من جهاتها الأربع. ثم جاء به بنفسه ونصبه هنا في الجلجلة بيده.
صفحة غير معروفة