3
إنها كلمة عظيمة ونحن قائلوها. إلا أن نبيكم محمدا ما نقول إنه رسول، فهذه خصلة لا نجيبكم إليها» * فعرض أبو عبيدة الخصلة الثانية وهي «تأدية الجزية عن يد وهم صاغرون» * فقال البطريرك: «ما كنا بالذي يدخل تحت الذل والصغار أبدا» * فقال أبو عبيدة: إذن نقاتلكم حتى نفتح مدينتكم ونستعبدكم ونغنم أموالكم * فأجاب البطريرك بغضب: لو أقمتم على قتالنا عشرين عاما لما فتحت المدينة لكم، وأنا الآن أقول لكم كلمة واحدة، وهي أن المدينة لا تفتح إلا لأميركم عمر بن الخطاب. فابعثوا في طلبه لأقابله، وألقي إليه مفاتيحها إذا رمتم صلحا حقيقيا فيه شرف لنا ولكم.
فأطرق أبو عبيدة يفكر مليا، وكان راغبا في الصلح حقنا لدماء رجاله. فقال: «إني أبعث إليه بأن يقدم علينا. أفتحبون القتال أم نكف عنكم؟» * وقد قال أبو عبيدة هذا القول؛ ليظهر للبطريرك أن قومه لا يبالون بالحرب. فأجاب البطريرك: «معاشر العرب ألا تدعون بغيكم. أنطلب حقن الدماء وأنتم تأبون إلا القتال؟» * فأمر أبو عبيدة حينئذ بالكف عن القتال، وانصرف البطريرك وحاشيته.
وبعد ذلك اجتمع امراء المسلمين؛ فأبلغهم أبو عبيدة طلب البطريرك «فرفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير.» * فرحا بقرب انتهاء الحرب ودخولهم بيت المقدس. «وقالوا: افعل أيها الأمير، واكتب إلى أمير المؤمنين بذلك فلعله يسير إلينا ويفتح هذا البلد علينا.» * وكان شرحبيل بن حسنة حاضرا، فقال: إن هذا الأمر يطول «فاصبر حتى نقول لهم: إن الخليفة معنا ويتقدم خالد إليهم فإذا نظروا إليه فتحوا الباب وكفينا التعب.» * «وكان خالد بن الوليد أشبه الناس بعمر بن الخطاب.» * ففعلوا ذلك، ولكن البطريرك وأهل المدينة لم تنطل عليهم هذه الحيلة. فقال البطريرك: «يا فتيان العرب كم يكون هذا الخداع فيكم، وحق المسيح لئن لم نر الرجل الموصوف ما نفتح لكم، ولا يرجع أحد منا يكلمكم ولو أقمتم علينا عشرين سنة. ثم ولى ولم يتكلم». *
فعند ذلك كتب أبو عبيدة إلى الإمام عمر الكتاب التالي:
باسم الله الرحمن الرحيم. إلى عبد الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من عامله أبي عبيدة عامر بن الجراح. أما بعد؛ السلام عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، وأصلي على نبيه محمد
صلى الله عليه وسلم ، واعلم يا أمير المؤمنين أنا منازلون لأهل مدينة إيلياء نقاتلهم أربعة أشهر؛ كل يوم نقاتلهم ويقاتلوننا، ولقد لقي المسلمون مشقة عظيمة من الثلج والبرد والأمطار. إلا أنهم صابرون على ذلك، ويرجون الله ربهم. فلما كان اليوم الذي كتبت إليك الكتاب فيه أشرف علينا بتركهم الذي يعظمونه، وقال: إنهم يجدون في كتبهم أنه لا يفتح بلدهم إلا صاحب نبينا واسمه عمر، وأنه يعرف صفته ونعته وهو عندهم في كتبهم، وقد سألنا حقن الدماء. فسر إلينا بنفسك، وانجدنا؛ لعل الله يفتح هذه البلدة علينا على يديك. *
ثم إنه طوى الكتاب وختمه * وسأل المسلمين من ينطلق به. فأسرع بالإجابة ميسرة بن مسروق العبسي * فامتطى ناقة له كوماء، وسار يقصد «المدينة» في بلاد العرب وهي كرسي الخلافة الإسلامية يومئذ ومقر السلطنة العربية.
الفصل الثامن عشر
الخليفة عمر بن الخطاب
صفحة غير معروفة