يا بني، عفوا إذا وجدت في كلامي شيئا من الحدة؛ إذ كيف تريد أن أكون هادئا رزينا حين تذكري هذه الأمور كلها. إنني كاهن ويحق لي أن أستشيط غضبا لإلقاء جوهرتنا في وحل العالم، وقد غضب يوما سيدنا مع كثرة صبره وحلمه فحمل السوط وطرد الباعة والصيارفة من الهيكل. فلي أسوة به إذا غضبت وأرسلت سوط الكلام إلى ظهور باعتنا وصيارفتنا ...
إنك ربما تستغرب كلامي هذا يا أيها الفتى الساذج النقي؛ لأنك لم تعرف شيئا من فساد العالم، ولم تر قبل الآن بلدا غير الناصرة وطن سيدنا، ولكن فاعلم الآن - ولا استغراب - أن كل الناس يعرفون هذه الحقائق التي ذكرتها لك ولا يجهلونها، وكم من مرة سمعت بعضهم يقول على نغم رنين النقود في الكنيسة وباقي المظاهر اليهودية القديمة: إن المسيح لو جاء الآن لما دخل علينا إلا وهو حامل سوطا. أجل يا بني، إننا كلنا لا نجهل هذه الحقائق، ولكن ما الحيلة؟ فإننا سائرون بالرغم عنا إلى طور الهرم ... وهذه سنة كونية لا تردها إلا سنة مثلها، وفعلها عام على كل المذاهب والأديان في كل زمان ومكان لا علينا وحدنا.
اسمع يا بني لأخبرك خبرا مهما؛ إنك سمعت ولا شك شيئا عن العرب، فهذه القبائل البدوية قام فيها رجل همام يدعوها إلى ترك الأصنام، وعبادة الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإيتاء الزكاة ... وهو النبي العربي الذي شاع خبره، وقد تمكن هذا النبي من التغلب على القبائل المشركة بقوة السيف المؤيدة بقوة الاعتقاد والثقة من أفضلية المبدأ، فجمعها كلها تحت لوائه استعدادا لغزو العالم وفتحه بها، وقد كنت منذ مدة في تلك البلاد؛ لأننا نحن النساطرة لنا حظوة عند النبي العربي ورجاله، وقد عرف بضعة منا وحادثهم * فلما شاهدت النبي وسمعت ما سمعته عنه من الحلم والشجاعة والعدل والرفق والمساواة والعناية بالضعفاء قبل الأقوياء عرفت السر في تأييد العناية الإلهية له في نهوضه، وسررت سرور الطفل؛ لأنني عاصرت زمنا عظيما وعصرا ذهبيا. أجل يا بني، إن عصر الأنبياء عصر ذهبي؛ لأن الشرائع التي يضعونها تكون عذراء طاهرة لم توضع عليها يد غير اليد الكريمة التي وضعتها، ولكن لا بد بعد واضعيها أن يأتي المفسرون والمؤولون والرواة والناقلون، وليس ذلك فقط؛ بل إن الطبيعة نفسها تبدأ بفعلها الأبدي. فإن الليل والنهار يتعاقبان، والقرون والأجيال تمر. فالأمم والمذاهب التي تكون أطفالا في البداءة تشب وتنمو وتتغير أحوالها فلا تعود تكفيها شرائعها الفطرية الأولى - وهذا ما حدث لنا، وسيحدث لغيرنا بعدنا.
ولما كنت في بلاد النبي العربي يا بني، وقفت في ذات يوم خارج «المدينة» وكانت خيام جمهور من الحجاج مضروبة في الخلاء، والنبي يتفقد الحجاج ويلاطفهم ويزودهم رضاه، وهم أمامه خشع خضع احتراما وإكراما. فسرحت نظري في حالتهم البدوية الجميلة، وأعجبت بالفطرة الإنسانية التي يكون فيها البشر بلا هم ولا حزن غير الاهتمام بمعتقدهم. فتذكرت حينئذ منظرا آخر. تذكرت سيدنا المسيح وتلامذته حول بحيرة طبريا في حقول الجليل الجميلة يتمشون بين الأزهار وسنابل الحنطة وهم منقطعون عن هموم الدنيا. فأطبقت حينئذ عيني من لذة الذكرى لتتمتع كل حواسي بها، وصرت أقول في نفسي لدى هذين المنظرين: هذه هي فطرة الإنسانية. هذه هي المعيشة الهادئة التي تنطبق على الحياة الروحية. ثم تساءلت: أي أفضل: أن تبقى الإنسانية هكذا طفلة صغيرة تعيش في وسط الطبيعة والنباتات والأزهار والأطيار وهي محافظة على أصول شرائعها الساذجة الأولى، أم تصير أمة عظمى فتبني المدن وتجمع الخيرات والثروات وتحيي الفنون والعلوم وتشيد الدول والممالك وإن تركت تلك الشرائع الساذجة الجميلة؟ وا أسفاه إننا جربنا ورأينا؛ رأينا أن الإنسانية متى خرجت عن طور الفطرة والطفولية صارت رجلا خشنا يهتم بمعدته أكثر من نفسه، رأينا أن مبادئ الدين إذا غلبت بعد الانغلاب وصارت سائدة بعد أن كانت مسودة تسلحت بالقوة وعاملت من لم يكن منها كما كانوا يعاملونها لما كانت ضعيفة، ولذلك يا أيتها الفطرة الضعيفة الصغيرة إنما يتحرك قلبي حنينا إليك، وأفضلك على كل المدنيات الكبيرة والممالك الواسعة؛ لأن هذه إنما هي عبارة عن «كرش» واسع فيه أقذار الهضم مقدمة على كل شيء.
يا بني، عذرا لتحمسي هذا. فإنني صرفت شيخوختي في التفكير في هذا الموضوع، وقد وصلت إلى آخر العمر، وأنا أعتقد اعتقادا هدم آمالي كلها، وهذا الاعتقاد هو أننا في الهيئة الاجتماعية الحاضرة لا يمكن الإصلاح بواسطة الدين إلا إذا كانت الإنسانية تعود إلى طفوليتها وفطرتها الأولى، فإن الدنيا قد زحفت وتغيرت، وصار يلزم نبي جديد للإنسانية الجديدة.
يا صديقي الصغير، لا تستغرب هذا الكلام الذي أقوله لك وأنا كاهن؛ فإنني تعودت أن أقول الحق ولو كان على نفسي وأعز شيء عندي. إن الدين لم يقدر على إصلاح الفساد الاجتماعي الذي وصفته لك في مقدمة الكلام، ولا يزال يباركه منذ مئات سنين بركة لا أحب لك أن تشترك فيها. نعم، إنه يشجب الرذائل والشهوات، ويحتقر المال ويسميه إلها مبالغة في إذلاله وتنفير الناس منه لئلا يشركوا بالله، ويوجب المساواة بين جميع طبقات البشر، ويدعو إلى الفضيلة والصدق والرفق والمحبة والتواضع والإخاء، ولكن يا صديقي أي تأثير لهذه الألفاظ في النفوس إذا لم تعمل بها؟ إنها تبقى ألفاظا فارغة من المعنى كالبندق الفارغ، ويكون أصحابها الذين يقولون بها ولا يعملون بما يقولونه مؤمنين في الظاهر وثنيين في الباطل، وكثيرون منهم يزعمون أنهم معذورون لاقتصارهم على القول دون الفعل. فإنهم يقولون مثلا: كيف نستطيع القيام بما يفرضه الدين علينا قبل أن تعد لنا لوازم حياتنا. كيف نكون أمناء مع الفقر والحاجة، وصادقين مع الضغط والظلم، ومحبين صافحين مع الحقد والبغض، وهادئين مطمئنين مع زوابع الحياة التي تعبث بنا من كل جانب. أفلا يجب على الأقل ضمانة معيشتنا اليومية لنا لنتمكن من التزام الحدود وقتل صل الطمع والحيوانية في داخلنا، فلتضمن لنا الهيئة الاجتماعية رزقنا اليومي، وترى بعد ذلك هل يخف الشقاء والفساد في الأرض أم لا.
وا أسفاه يا بني، إن في هذا الكلام شيئا كثيرا من الحقيقة كما فيه أيضا شيء كثير من الباطل فإنه يجب علينا أن نطلب الفضيلة لذاتها بالرغم عن فقرنا وحاجتنا وضعفنا، وإلا فإن الفضيلة لا تكون فضيلة ولا يكون لنا فضل فيها.
5
ولكن الباطل الذي في هذا الاعتراض لا ينبغي أن يستر ما فيه من الحق: فإنه على الهيئة الاجتماعية أن تهتم بكل واحد من الناس؛ لتضمن رزق من لا رزق له، وبذلك تكون عملت على تخفيف الشقاء والفساد، وهنا الخطأ العظيم الذي وقعت فيه الكنيسة. فإنها ماذا تعلمنا اليوم؟
6
صفحة غير معروفة