وكان للبطريرك قصر رحب قائم وراء الكنيسة يقيم فيه مع حاشيته كلما قدم إلى بيت لحم. فبعد أن استراح فيه هنيهة أمر بأن يستدعوا إليه الشاب إيليا. أما الشيخ والفتاة فإنهما أدخلا إلى إحدى غرف القصر وأقفل عليهما الباب.
فلما مثل إيليا بين يدي البطريرك أمره بالجلوس بإزائه فجلس إيليا محتشما.
وكان البطريرك صفرونيوس مهيب المنظر جميل الهيئة، وهو في نحو السبعين من العمر، وكان شعره الأبيض يكلل هامته العالية، ووجهه الناصع البياض الشديد الحمرة تلمع فيه عينيان زرقاوان حادتان لم تكسر السنون قوتهما، وكان له فوق هاتين العينين القويتين حاجبان كثيفان واسعان كأنهما حرشان مشتبكان فإذا قطبهما خلت أن العينين صارتا بركانين يقذفان نار الغضب والحدة، وكان بدنا ممتلئ الجسم، وعليه ثوبه الكهنوتي الحريري الأسود يعاكس لون وجهه الأبيض فيزيده جمالا وجلالا.
فلما جلس إيليا سأله البطريرك أن يقص عليه القصة من أولها، وأن لا يكتمه شيئا. فقص عليه إيليا حادثته، وكيف خلصه النبي أرميا. فابتسم البطريرك لذكر النبي أرميا لأنه كان مشهورا. ثم استطرد إيليا من ذلك إلى حادثة الشيخ والفتاة لحين وصول البطريرك. فأصغى إليه البطريرك ساكتا، وبعد أن تأمل قليلا سأله: وما هو غرضك يا بني من المداخلة في هذا الأمر؟ فأجاب إيليا مضطربا: لي غرضان؛ واحد للدفاع عن النفوس البشرية التي حرم الله أذيتها، وواحد للدفاع عن ديانتنا.
ولكن من يعرف أسرار إيليا فإنه لا يشك في أنه يكتم غرضا ثالثا، وهو الميل الذي بدأ يشعر به نحو تلك الفتاة الحسناء.
فحدق البطريرك في وجه الشاب مدهوشا، وقال: فسر كلامك يا بني.
فقال إيليا، وقد بدأ يتحمس: يظهر أن غبطتكم يسركم أن تسمعوا من فمي ذلك، وإلا لاكتفيتم بما تعرفونه من هذا القبيل، وحسبي ما فهمته منكم على الطريق، فإنه من المشهور يا مولاي أن الخصم لا يستمال بالعنف والشدة والبغض. فإذا وقع بين أيدينا كان حكمه علينا تابعا لمعاملتنا له. فإذا أحسنا معاملته وأغضينا عن إساءته قال إننا قوم كرام متمدنون، وربما عاد وانقلب فصار ميالا إلينا، وإن عاملناه بالعكس قال بالعكس، وازداد بغضا لنا. فيجب علينا في رأيي أن نحسن معاملة غيرنا لنثبت له فضل مبدئنا، وإلا كان محقا في كرهه لنا ولمبدئنا.
فأطرق البطريرك يفكر. ثم سأل الشاب هل اسمك الخواجا إيليا يا بني؟ فقال الشاب مدهوشا من نقل الحديث، ومعرفة البطريرك اسمه: نعم يا مولاي.
فقال له: وهل أنت الذي يراك رهباني هائما على وجهك في جبل الزيتون، ووادي سدرون، وحول المدينة المقدسة؟ فقال الشاب وقد زادت دهشته: تلك طريقي يا مولاي إلى المزرعة التي أنا مستخدم فيها. فقال البطريرك وقد هز رأسه: إنك تعني مزرعة الشيخ سليمان الذي حرم على الكهنة الدخول إليها وجعلك «كاهنا عاميا» لها، ولذلك يسميها «أورشليم الجديدة» بدل أورشليم مدينتنا. فأطرق الشاب هنا خجلا واستحياء من شيخوخة البطريرك ورقته. فقال البطريرك مظهرا الاستياء: لا بأس لا بأس، ولكنني أنصحك يا بني أن تخفف على نفسك فلقد نظرتك أمس من نافذة قصري في المدينة تنظر إلى القصر وسكانه بهيئة الازدراء والاحتقار، وكنت في تلك الساعة أقرأ تقريرا فيك مقدما من أحد عارفيك. فما لنا يا بني والاهتمام بما لا يعنينا. إنما علينا أن نعيش بحب وسلام مع جميع الناس. فإن الصغار أخوة لنا كالكبار، وكلنا عائلة واحدة بالرب، وأنت لا تزال شابا، ولذلك يغلي دمك في عروقك، وحسبي دليلا على ذلك اللهجة التي سمعتها منك الآن. فإن غيري لو كان في مكاني لما قبلها منك. فهل تعدني أنك تعدل عما مضى، وتترك ما لا يعنيك.
فلما سمع إيليا هذه العظة الصغيرة التي لم يكن يتوقعها أسقط في يده، واحتار في الجواب. فأدرك البطريرك اضطرابه فمد يده وأمرها على رأس الشاب تحببا، وقال: حسن حسن ستترك كل ما مضى ولا شك. فلنعد إلى أمر الشيخ والفتاة. هل تعرف منزلهما؟ فأجاب الشاب: كلا يا مولاي، فقال: ومن أين قدما؟ قال: لا أعلم. فقال: وما سبب مجيئهما إلى هنا مع معرفتهما أن الدخول إلى المدينة المقدسة محرم قطعيا على اليهود؟ فقال: لا أعلم يا مولاي، فقطب البطريرك حينئذ حاجبيه، وقال: إنك لا تعلم شيئا من أمرهما ومع ذلك تتوسط لهما بالعفو بحجة الرفق والرحمة. فالرفق والرحمة يا بني فضيلتان واجبتان، ولكن يجب أن نبحث هل وراء هذين الشخصين دسيسة لنا أم لا؟
صفحة غير معروفة