الرد على من أنكر المعجزات النبوية أو لم يذكرها في كتبه
هذه هي الحلقة الثانية من السيرة العطرة لسيدنا رسول الله ﷺ.
والحديث عن السيرة ليس سردًا تاريخيًا لوقائع السيرة أو للتاريخ، ولكننا ندرس التاريخ الإسلامي والسيرة العطرة لسيدنا الحبيب ﷺ لكي نأخذ العبر والعظات التي نتعلمها منه ﷺ.
فلقد كانت حياته كلها عبرًا ودروسًا مستفادة يستطيع المسلم أن يأخذ منها القبس وأن يضيء منها المصابيح وأن يتلمس منها المفاتيح في ليالي الأيام وظلمات الطرقات وهو يسير إلى الله ﷿ سيرًا حثيثًا.
كما أن المتصدر لتدريس حياة النبي ﷺ يجب ألا ينسى للحظة أنه نبي، فمن قال: إنه كان قائدًا عظيمًا، فلابد أن يعلم أنه نبي كذلك، ومن قال: إنه كان سياسيًا بارعًا، نعم هو كذلك ولكنه نبي، فكل حركة من حياة سيدنا الحبيب فهي نابعة من النبوة، أي: وهي بأمر من الله ﷿ فعندما يتكلم فإنه يتكلم بوحي من الله، ويتحرك ويتصرف بناء على توجيهات الوحي الأعلى، فهذه مسألة مهمة أغفلها العلماء الذين ظهروا في بداية العصر الحديث من أمثال محمد عبده والشيخ المراغي ومن على وتيرتهم ﵏ جميعًا وألحقنا بهم على الإسلام، وجزاهم الله خيرًا على ما فعلوا للأمة الإسلامية؛ لكنهم جاءوا في وقت كان الهجوم على الإسلام شرسًا، والهجوم على نبي الإسلام أشد شراسة.
وقد دافعوا عن سيدنا رسول الله ﷺ، فخلت كتاباتهم التي كتبوها عن لفظة (رسول الله)، ومن الحديث عن المعجزات؛ لأنهم شعروا أن المعجزات ليست مسألة عقلية، وهم كانوا يدحضون الحجة بالحجة، فيريدون أن يردوا على أمثال رينان أو من كان على شاكلته من المستشرقين.
فهذا الرجل علماني أو عقلاني، فمن أجل أن يقنعه محمد عبده فإنه يرد عليه بالعقل.
فـ محمد عبده لم يتحدث مثلًا عن حادثة المعراج؛ لأنه رأى أن هذه مسألة ليست عقلية عند الأوروبيين وهم لن يقبلوا، ولم يتحدث مثلًا عن أن المياه نبعت من بين أصابع الحبيب المصطفى ﷺ بحجة أن هذه ليست مسألة عقلية، ولم يتحدث أن الرسول مسح بيده على قدم أبي بكر في الغار عندما لدغته الحية فعادت سليمة كأن لم يكن بها شيء، لكن نقول لـ محمد عبده ولغيره: نحن نأخذ شخصية الرسول ﷺ على أنه رسول مؤيد بالوحي الأعلى، وقد ورد في كتب الصحاح، أن رجلًا أعرابيًا اصطاد ضبًا، ثم أتى أناسًا كان بينهم رسول الله ﷺ، فكان يسأل: من هذا؟ من هذا؟ فقالوا: هذا رسول الله، فاقترب منه وقال: يا محمد! من يشهد لك بالرسالة؟ ولو قال له: الله يشهد، فسينكر الأعرابي، ولو قال له: الصحابة يشهدون فإنه سيقول: إنهم أصحابك وأصدقاؤك.
فقال الحبيب مبتسمًا: (أتريد شاهدًا يشهد على صدق رسالتي يا أعرابي؟ قال له: نعم، قال له: هذا الضب الذي في يدك)، فنظر الرجل إلى الضب فقال الضب بلسان عربي مبين: أشهد أنك رسول الله، فإذًا الرسول مؤيد من الوحي الأعلى.
أما أن يأتي محمد عبده أو غيره من أجل أن ينفي قضية المعجزات فهذا خطأ فادح.
ومن المعجزات أن النبي يوم ولد تصدع إيوان كسرى وغاضت بحيرة ساوة وسقطت شرفات إيوان كسرى وخمدت نار فارس.
فنحن خلال دراستنا لحياة الحبيب يجب أن ننظر إليه على أنه رسول، وقد وضح هذه القضية لـ عمر بن الخطاب فقد دخل عليه يومًا ووجد الحصير وقد أثر في جنبه، فقارن سيدنا عمر بين كسرى وقيصر وهما يعصيان الله ويرفلان في الحرير والديباج، وتنام أنت على حصير ويؤثر في جنبك يا رسول الله! فقال: (يا ابن الخطاب أفي شك أنت؟ إنها نبوة لا ملك وشقاء أمتي يوم يكون فيها كسرى ويوم يكون فيها قيصر).
وعندما كان يجد ﵊ الصحابة يقومون له عندما يأتي احترامًا له وهيبة فكان يأمرهم فيقول: (اجلسوا، إنما يقوم الناس لرب العالمين، لا تطروني كما أطرت الأعاجم ملوكها ولا تعظموني كما عظمت النصارى المسيح ابن مريم، وإنما قولوا: عبد الله ورسوله، فأنا عبد الله ورسوله)، ففيه العبودية وفيه الرسالة.
﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الكهف:١١٠] ضع تحت (يوحى إلي) خطوطًا.
يقف أبو سفيان في فتح مكة، والمسلمين داخلين خلف الحبيب فالرايات مرفوعة، راية خضراء للأوس وراية ثانية للخزرج وراية أخرى للمهاجرين، والرسول داخل بين كوكبة من صحابته ورايته سوداء ﷺ يحملها علي بن أبي طالب، فعندما دخل العشرة آلاف قال أبو سفيان للعباس: لقد صار ملك ابن أخيك كبيرًا، فيرد العباس ويقول له: إنها نبوة لا ملك يا أبا سفيان! أي: أن هذا التأييد إلهي من الله ﷿، ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الكهف:١١٠]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة:٦٧].
ويقول لموسى: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ [طه:٣٩] ويقول لحبيبه محمد: ﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ [الطور:٤٨].
وقد أشار موسى إلى الرسالة، وأشارت الرسالة إلى محمد ﵊.
فموسى قال لأهله ﴿امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا﴾ [طه:١٠] فهو أشار ناحية الرسالة، بينما الرسالة جاءت لحبيب الله، ويقول الله لموسى: ﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ﴾ [طه:١٣] وحبيبنا ﵊ هو المختار.
وفي صلح الحديبية يحصل أمر غريب: فالمشركون أرادوا الصلح وأرسلوا سهيل بن عمرو رئيس وفد المشركين في المفاوضات، وكان سيدنا الحبيب ﷺ ومعه المسلمون في الطرف الآخر من المفاوضات، وأمر عليًا أن يكتب بنود الصلح، وفي النهاية قال: اكتب يا علي! هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو.
فقال سهيل: لو أعلم أنك رسول الله ما قاتلتك.
وهذا الكلام مهم جدًا ونريد خلال دراسة السيرة أن نرتقي ونرتفع لنقترب من شخصية الحبيب المصطفى، التي سوف نرى فيها عجبًا عجابًا، فإنه ما قدره حق قدره إلا ربه.
ولذلك عندما حدثت الأزمات وراء بعضها: خديجة تموت، ثم بعد ثلاثة أيام يموت أبو طالب واشتد الإيذاء من قريش، فيذهب إلى الطائف ليكذبه أهل الطائف ويخرجوا أولادهم يقذفون بالحجارة وتسيل دماؤه الزاكية على رمال الطائف، ويجلس هناك في ظل البستان، فينادي ربه ويقول: (اللهم أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أضاءت له السماء والأرض، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك)، فترتج لهذا الدعاء أرجاء السماء، واجتمعت الملائكة كلها في صف الحبيب المصطفى.
وقد قال تعالى لنسائه: ﴿وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ [التحريم:٤] فجبريل في صفه والملائكة والمؤمنون، والله قبل كل شيء وبعد كل شيء.
فينزل ملك الجبال ويقول: السلام يقرئك السلام، ويقول لك: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فقال: لا تفعل؛ فلعل الله يخرج من أصلابهم من يقول: لا إله إلا الله.
وقد قال ﵊: (بعثت إلى الناس كافة، فإن لم يؤمنوا فإلى العرب خاصة، فإن لم يؤمنوا فإلى قريش، فإن لم يؤمنوا فإلى بني عبد مناف، فإن لم يؤمنوا فإلى بني هاشم، فإن لم يؤمنوا فإلى نفسي)، وهذا من تواضعه ﵊، اللهم ثقل بصلاتنا عليه موازيننا يوم القيامة، اللهم فرح بنا قلب نبينا، واسقنا من يده الكريمة شربة من حوض الكوثر لا نظمأ بعدها أبدًا آمين يا رب العالمين.
وبينما هو راجع من الطائف كان يسلي نفسه بسورة الرحمن، فكلما وصل إلى قوله تعالى: ﴿فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن:١٣] يسمع من يقول: ولا بأي من آلائك نكذب يا ربنا فلك الحمد، فيلتفت من حوله فلا يجد أحدًا، فيعرف أن الجن قد آمنت به، أي: فإن كنت حزينًا من الإنس فقد آمنت بك الجن، وإن كنت هينًا عند أهل الأرض فأنت عظيم عند أهل السماء.
وبالليل رجع إلى مكة فوجد أبا طالب قد مات وخديجة قد ماتت بعده بفترة، وأهل الطائف لم يؤمنوا، فاشتد تنكيل قريش بالتعذيب والقهر والجبروت لأصحابه ولأحبابه، عند هذا الألم والضيق يطرق الباب عليه طارق، فيدخل من الباب رجل شديد بياض الوجه شديد سواد الشعر ليس عليه أثر السفر، فقال: يا محمد! السلام يقرئك السلام ويستزيرك ويقول: أنت ضيف على ربك الليلة.
وكأن الله يقول له: إذا كانت خديجة ماتت وأبو طالب مات فلا تخف فإني معك.
ومادمت مع الله فلا تظن أن شيئًا قد فاتك أبدًا، فثق يا مظلوم! أن نصر الله آت، وليكن عندك ثقة في الله ﷿ وأن نصر الله آت، ولكن في الوقت الذي يريده هو لا في الوقت الذي تريده أنت.
2 / 2