مقدمة الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
الجامع الأموي
في دمشق
وصف وتأريخ
بقلم
علي الطنطاوي
كتبت مقدمة الطبعة الأولى في دمشق سنة ١٩٦٠، ومكتبتي أمامي وأوراقي تحت يدي. وأكتب هذه المقدمة في مكة المكرمة سنة ١٩٨٩ وقد بَعُدت المكتبة عني، وضاعت الأوراق مني، والدرج الذي أودعته أخبار الأموي لم أعد أعرف ما فعل الله به، ولا بما كان فيه من أوراق، ولم أعد أستطع أن أعوضه. ومن أين لي أن أن أعود إلى الكتب التي طالعتها، والسنين الطويلة التي أمضيتها أتتبع أخبار الأموي من صفحات الكتب ومن أفواه العلماء، وكلما وجدت خبرًا نقلته وذكرت من أين أخذته، أو ممن سمعته. ولعلها موعظة جاءتني من الله، إذ آثرتُ مصلحتي على مصلحة المسلمين، وضننتُ بما اهتديت إليه على الناس، وخفت أن يأخذوا المصادر التي جمعتها ولا ينسبوها إليّ ... وكنت أؤمل أن أجعل منها كتابًا كبيرًا عن الأموي، فضاع الأمل. ولم يبقَ إلا هذا المختصر.
أسأل الله أن ينفع به، وأن يثيب كاتبه وناشره عليه.
مكة المكرمة
٠٣/ ٠٥/١٤٠٩ هـ
٠١/ ٠١/١٩٨٩ م
صفحة غير معروفة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله، وعلى سائر رسل الله وأنبيائه. اللهم منك العون، وعليك الاتكال، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
...
وبعد، فإن من دأبي كلما ازدحمت عليّ المتاعب، وركبتني الهموم، وضياق صدري، وانقبض قلبي، أن أمشي حتى أجد مسجدًا خاليًا، فأدخله فأصلي ركعتين، وأقعد، أشعر بسكون المسجد من حولي، وبجلال الحق من فوقي، حتى أجد الطمأنينة والرضا، كأني نجوت من البحر الهائج إلى الجزيرة الآمنة، وتركت الصحراء المحرقة إلى الواحة الظليلة، وكأن ما كنت فيه من المشكلات، وما كان في صدري من الهموم، قد ذهب كله، لما دخلت حمى الله وصرت في بيته واعتصمت به من الناس وشرورهم، ومن نفسي وسوئها، ومن الشيطان ووسواسه. وإذا كان العرف الدولي على أن بيوت سفراء الدول الأجنبية قِطَع من بلادهم ولو كانت في بلاد الناس، فإن بيوت الله رياض من رياض الجنة، وإن كانت في هذه الدنيا، فمن دخلها كان ضيف الله، وكان جاره. فهي أبواب السماء المفتحة دائمًا إن سُدّت في وجه البائسين اليائسين أبواب الأرض، وهي منار الهدى إن ضل بالسالكين الطريق، وإن كان في الدنيا الخير والشر، فهاهنا الخير الذي لا شر معه، وإن كان فيها الحق والباطل، فهاهنا الحق الذي لا باطل فيه.
1 / 3
ومن هنا تخرج الكلمة من حلوق المؤذنين، وأفواه الخطباء والمدرسّين فتمشي في الفضاء، من فوق رؤوس الملوك والكبراء، والأغنياء والأقوياء، كلٌّ يخضع لها ويصغي إليها، لأنها كلمة الخالق، وإن جاءت على ألسنة ناس من المخلوقين.
هذه قلاع الإيمان في وجه الإلحاد.
هذه حصون الفضيلة، أمام الرذائل والشهوات.
والمسجد هو المعبد في الإسلام، وهو البرلمان، وهو المدرسة، وهو النادي، وهو المحكمة.
هو (المعبد): يدع المسلمين أحقادهم ومطامعهم وشرورهم وفسادهم على الباب، ويدخلون إليه بقلوب متفّتحة للإيمان، متطلّعة إلى السماء، متحلّية بالخشوع، ثم يقومون صفًّا واحدًا، يستوي فيه الكبير والصغير، والأمير والحقير، والغني والفقير، أقدامهم متراصّة، وأكتافهم متزاحمة، وجباههم جميعًا على الأرض، يستوون في شرف العبودية، وفي شرعة العبادة.
وهو (البرلمان): ما دهى المسلمين أمر، ولا عرض لهم عارض، إلا نودي: "الصلاة جامعة" فاجتمع الشباب في المسجد. ففي المسجد يكون انتخاب الخليفة، وفيه تكون البيعة، وفيه تُبحث القوانين، تستمدّ من الشرع ثم تعلن فيه على الناس.
وهو (النادي): إن قدم أمير بلدًا كان أول ما يدخله من البلد المسجد، على منبره يعلن سياسته، ويذيع منهاجه، وإن كانت حرب، عُقدت الرايات في المسجد، وليس في الإسلام حروب هجومية لمجرد
1 / 4
الفتح والاستعمار والكسب، بل فيه الحرب الدفاعية فقط، حرب الدفاع عن العقيدة: أن يمنع أحد مسيرها، وعن أصحابها: أن يحول أحد بينهم وبين قيامهم بفرض الدعوة إليها. إنهم مكلّفون بحمل المصباح الذي أضيء من غار حراء، لينوّروا به الدنيا، ويبددوا به الظلام عن أهلها فإذا انبرى لهم من يحاول إطفاء المصباح، ومن يريد منع نور الله أن يصل إلى عباده، حاربوه حتى يفيء ويرجع، فإن فاء ورَجَع إلى الحق كان واحدًا منهم، له ما لهم وعليه ما عليهم، وإن أبى إلا عنادًا فحارب فغُلب على أمره لم يُكرهوه على الإسلام، ولم يكلفوه شططًا، ولم يحمّلوه إلا ضريبة محدودة، هي تكاليف الدفاع الذي يتولّونه هم وحدهم. ضريبة هي أشبه بـ (البدل العسكري)، يدفعه المغلوبون من أموالهم، ويدفع المسلمون الغالبون ضريبة الجهاد من أرواحهم.
والمسجد هو (المدرسة): وفي المساجد وُضعت أسس الثقافة الإسلامية، وفيها ارتفعت ذراها، وشُيّدت صروحها. وكان يدرّس في المسجد كل علم ينفع الناس: من علوم القرآن، وعلوم السنة، وعلوم الشريعة، وعلوم اللسان، وعلوم سنن الله في الأكوان. وكل علم تحتاج إليه الأمة الإسلامية يكون تعلمه فرض كفاية في نظر الإسلام، حتى الكيمياء والفيزياء والرياضيات. ونجد بعد ذلك مَنْ تبلغ به الجهالة أن يَصِم بالجمود دينًا يجعل تعلّم الكيمياء فرضًا كفرض العبادات.
والمسجد هو (المحكمة): وعلى بُسُط المساجد وأمام أعمدتها وأساطينها أُصدرت أعدل الأحكام وأجرؤها، وفيها سُطرت أروع صفحات القضاء البشري، ولطالما أقام القضاة فا الجَمّال والحَمّال
1 / 5
مع أمير المؤمنين (١)، والأجير والفقير مع الأمير الكبير (٢)، ثم حكموا له عليه، لا يبالون مع الحق صغيرًا ولا كبيرًا.
وقد تشرّفتُ فزرتُ آلافًا من المساجد، في الداني من بلاد الإسلام، عامرها ودائرها، فرأيت المسجد الحرام، ومسجد الرسول ﷺ، والمسجد الأقصى، والأزهر المعمور، ومسجد أبي حنيفة والجيلاني في بغداد، وابن طولون والمتوكل في القاهرة، سرّ مَنْ رأى، وآثار مسجدّي الكوفة والبصرة، والمسجدين العظيمين: المسجد الجامع في دهلي، وآثار مسجد قوة الإسلام في دهلي القديمة، ومساجد الملايا وجاوه، فما رأيت فيها كلّها بعد المساجد الثلاثة التي ميزّها الله وجعل الصلاة فيها أفضل بدرجات، مسجدًا هو أقدم قدمًا، وأفخم مظهرًا، وأجمل عمارة، وأحلى في العين منظرًا، من الجامع الأموي في دمشق.
كان مدرسة دمشق، في الحلقات يدرّس فيها فيها كل علم، وكان النادي يجتمع فيه الناس كلما دهم البلدَ خطب، وكان الأموي في عهد نشأتنا الأولى لبّ دمشق، فكانت الدار القريبة هي القريبة من الأموي، والبعيدة هي البعيدة عن الأموي، وكانت الأرض الغالية هي التي جاورت الأموي، وكان الأموي ملعبنا ونحن أطفال، ثم كان مدرستنا الثانية ونحن طلاب، ندخله إذا انصرفنا من المدرسة فنصلي فيه، ونقف على حلقاته، وما كان يخلو وقت فيه من حلقتين أو أكثر، وكنا نتبوأ مقاعدنا
_________
(١) منها دعوى الجمّال على أمير المؤمنين المنصور أمام قاضي مكة.
(٢) ومنها دعوى المرأة على عيسى بن موسى أكبر أمراء البيت العباسي ووالي العراق أمام القاضي شَريك.
1 / 6
من بعضها، نأخذ الفقه والحديث واللغة والنحو، وكنا نؤمُّه في عشايا الصيف مع آبائنا، نتخذ من صحنه متنزّهًا وأُنسًا، وكنا نؤمّه في ليالي الشتاء نتخذ من حرمه ملجأ وأمنًا، وكان الأموي مثابة النضال الوطني على عهد الانتداب، فيه تُلقى الخطب، وفيه تُعدّ المظاهرات، ومنه تسري روح النضال في الناس، فكان للدين والدنيا، وللعبادة والعلم، ولكل ما فيه رضا الله ونفع الناس، وكذلك يكون المسجد في الإسلام.
وأكثر ما كثر عليه تَردادي، واتصل به حبلي، لما كنت في المدرسة الجَقمَقية، ثم لما صرت من بعد في مكتب عنبر، وأُولعت من أيام الجقمقية (سنة ١٩١٩ م) بأن أنقل كل خبر أجده عن الأموي، واستمرذلك أكثر من أربعين سنة، من تلك الأيام إلى الآن (١)، فاجتمع لي من الأوراق والجذاذات والمذكرات ما يملأ درجًا كبيرًا. وكنت كلما عزمت على تصفيته، وإخراجه في كتاب، تعاظمني الأمر فتهيّبته، وقد جمعتُ كل ما وجدته عنه في ابن عساكر، و"الدارس"، و"محاسن الشام"، و"مسالك الأبصار"، و"البداية والنهاية"، و"الروضتين" وذيله، و"شذرات الذهب"، و"معجم البلدان"، و"النجوم الزاهرة"، وتاريخ ابن القلانسي، و"السلوك" للمقريزي، وكتب ابن طولون، وما كتبه القاسمي وبدران. ورأيت بعض الرسائل المخطوطة، وكتبًا أخرى لا أريد الآن إحصاءها.
وكنت كلما تقادم العهد، ازدادت هذه الأوراق كثرة، وازددت لها تهيبًا، حتى إذا صح مني العزم قليلًا، استخرجت سلسلة الأحاديث التي كنت حدّثت بها من إذاعة دمشق عن الأموي من سنين ثم تركتُها، فلما طلبتْ مني المديرية العامة للأوقاف أن أكتب شيئًا عن الأموي، يكون
_________
(١) أي إلى وقت كتابة هذه الفصول.
1 / 7
كالدليل للسائح، استخرجتُ منها هذه الخلاصة التي أقدمها اليوم، ولم أغزّ كلَّ خبر فيه اعتمادًا على أني سأُخرج إن شاء الله الكتاب الكبير عن الأموي وكلَّ خبر فيه معزوّ إلى مصدره، ولأني جربت في كتابي عن أبي بكر وعمر أن أذكر كل مصدر، وأعيّن الطبعة من الكتاب والجزء والصفحة، فأخذ ناسٌ من (أكبر) كُتّابنا ومؤلفينا ما فيهما ولم يُشيرا إليهما، وادّعيا أنهما أخذا من الأصول التي نقلت منها.
وأنا أسأل الله التوفيق، وأن يجعلنا من المخلصين.
دمشق: ٤ رمضان ١٣٧٩ هـ
١ آذار ١٩٦٠ م
علي الطنطاوي
1 / 8
حياة الأموي
لكل موجود إن حقّقتَ حياة: الجبال والأنهار، والمدن والعمارات، كلها حية تولد وتموت، وتشبّ وتهرم، وتصحُّ وتمرض.
هذا الأموي الذي جئتُ أعرض عليكم خطوطًا من صورته، وملامح من تاريخه، له حياة طويلة، ولحياته تاريخ طويل.
تاريخ لا يدري إلا ببعضه التاريخ، لأن الأموي وُلد قبل أن يُكتب التاريخ.
لا نعرف ولا يعرف أحد مَنْ الذي وضع الحجر الأول فيه، ولا متى شُيّد، فكأنه قام ليصل الأزل بالأبد.
صارع النار والدمار، وثبت على الأدهار والأعصار، تكسّرت على جدرانه موجات القرون كما تتكسّر الأمواج على صخرة الشاطئ، ثم ترتد عنه ميتة وهو حي قائم.
ذهب أمية بمالها وسلطانها، ولبث وحده يخلد في الدنيا اسم أمية، فكان أبقى من كل ما نالت أمية من مال ومن سلطان.
كان معبدًا من أكثر من ثلاثة آلاف سنة، تداولته أيدي اليونان والرومان وأقوام كانوا قبلهم، ثم صار للمسيح، ثم انتهى لمحمد.
كنيسة صارت إلى مسجد ... هدية السيد للسيد (١)
_________
(١) البيت لشوقي.
1 / 10
صلى الله على سيدنا المسيح وعلى سيدنا محمد خاتم الأنبياء الذي نسخت شريعتهُ الشرائعَ وعلى كل نبي أرسله الله بالهدى والتوحيد والدين القيّم، لا نفرّق بين أحدٍ من رسله، نؤمن بكل نبي بعثه الله على ما بُعث عليه، وكل كتاب أنزله الله على ما نزل عليه، ونقول: كلٌّ من عند ربنا ونحن له مسلمون.
...
وُلد المسجد ليلةَ الفتح، حين شرّف الله الشام وأراد لها الخير، فاستظلّت براية القرآن، واتّبعت داعي الله وسلكت طريق الموصل (إن شاء الله) إلى الجنة، ثم شبّ واكتهل، ونما واكتمل، على عهد الوليد، يوم كانت دمشق تمرح في جنة غَرس محمد، وتنعم هانئةً بالأم والرخاء في فَيْئ الصرحِ الذي شاده محمد ﷺ على محمد حين كانت الليالي أعراسًا، والأيام أفراحًا، والدنيا ترقص ابتهاجًا وتميس من السرور.
هنالك كان الأموي يتبوأ في دمشق سُدّة ملك، قد لبس الفسيفساء، وتحلّى بالذهب، وتسربل بستر الوشي والديباج، وتاه على كل بناء في الأرض.
ثم أراه الزمان من حلوه ومرّه، ومن نعيمه ما يُري كلّ (حي) في الوجود.
ولست أستطيع أن أعرض عليكم تاريخ الأموي، يومًا بيوم، فلقد كانت تتعاوره الأيدي دائمًا: أيدي المصائب والبغاة، بالخراب والدمار، وأيدي المصلحين بالعمارة والإصلاح، حتى غدا وفي كل شبر منه تاريخ، وصار كفسيفسائه، كل قطعة منه من طبيعة ومن لون، ولكل يوم من حياته الطويلة قصة!.
1 / 11
ومن كانت له دار يسكنها هو، وسكنها أبوه من قبله خمسين سنة، يتعهّدها فيها بالإصلاح وبالتجديد، لم يستطع أن يحدّد تاريخ كل باب فيها وكل جدار، فكيف بالأموي وهو من ألف وثلاثمئة سنة عرضة للإصلاح والتجديد.
بقي الأموي على صفته الأولى (التي ستقرؤونها بعد صفحات) أو على قريب منها نحوًا من أربعمئة سنة، أي إلى سنة ٤٦١ حين نشب فيه الحريق العظيم، فنسخ آياتِ حُسنه، وطمس وجه جماله، وصيّره تلالًا من التراب، وبقي على ذلك أربع عشرة سنة إلى سنة ٤٧٥ حين جُدّد بأمر ملكشاه السلجوقي.
ثم تتالت عليه الزلازل والحرائق على ما سيأتي تفصيله، ولم يكن عمل البشر في صحن المسجد أقل من عمل الطبيعة (١)، فلقد انتابه الإهمال مرة حتى صار كأنه خان أو فندق، وامتلأ صحنه باللاجئين والمقيمين، وصار الرجل يجد لنفسه موضعًا فيه يضع فيه حاجاته وصندوقه، ويقيم لنفسه مقصورةً أو كوخًا، ويستقر فيه، وبلغ ما فيه من هذه المقاصير أكثر من ثلاثمئة، واتخذ فيه الأمراء حواصل ومستودعات، وبقي ذلك مدة لا يُعرف مقدارها حتى جاء الملك الظاهر، فكان من بداية إصلاحاته أن طرد هؤلاء الناس، ونظّفه وغَسَل رخامه، وفرشه وأعاده مسجدًا للعبادة والعلم.
_________
(١) الطبيعة (فعيلة) بمعنى مفعولة، والذي طبعها وأجراها على سننها والله خالق كل شيء.
1 / 12
وعبث به التتر والمغول مرتين، مرة في أواخر القرن السابع الهجري، إذ عطّلوه واتخذوه معسكرًا لهم، ونصبوا فه المنجنيقات لرمي القلعة، وارتكبوا فيه أنواع الإثم والفجور.
ومرة على عهد تيمورلنك الذي أساء إلى دمشق إساءة لم يأت مثلها أحد.
ثم كان الحريق الأخير سنة ١٣١١ الذي ذهب بالمسجد كله (أي الحرم)، وجدّده أهل الشام. وفيما يلي من الفصول بعضُ التفصيل لهذا الإجمال.
1 / 13
جولة في الأموي
تعالوا، أولًا، نلم بالمسجد كله بنظرة واحدة، أكون أنا فيها دليلكم، أصفه لكم بإجمال وإيجاز، ثم أعود في الفصول التالية، فأفصّل ما أجملته، وأسهب فيما أوجزته.
السور والدهاليز:
نحن الآن في باب البريد، أترون هذه القنطرة وهذه الأعمدة الكبار؟ هذه بقايا أعمدة السور الخارجي للمعبد، والكتابات التي تبدو عليها كتابات محدثة من عهد المماليك.
أما قناطر السور الداخلي، فترون بقايا ركائزها لاصقات بالجدران على طرفي باب المسجد. وكان لكل باب من الأبواب الأربعة دهليز، وأعظمها دهليز الباب الشرقي، ثم الباب الغربي (وهو هذا)، ثم الباب الشمالي، ولا تزال آثار ذلك كله واضحة، ولا تزال بقايا أعمدة الدهليز الشرقي وأعمدته الكبار مائلة قد غطّتها الدكاكين.
وقد بقيت هذه الدهاليز إلى القرن السادس، وترون وصفها فيما كتبه ابن جبير وأثبتناه في آخر هذا البحث.
مداخل الأموي:
وهذه الدكاكين التي تشوّه منظر الجامع في السوق الضيّق من هنا (١)، وفي
_________
(١) سمعت (وأنا مقيم في مكة من ست وعشرين سنة) أنها أزيلت، وكشفت جدران المسجد.
1 / 15
القباقبية من هناك، كان الأمراء يمنعون أمثالها حرمة للأموي، وقد صدر الأمر سنة ٦٤٧ هبهدمها كلها. وكانت عنايتهم بمداخل الأموي وما حوله كعنايتهم به نفسه، ففي سنة ٦١٠ أمر الملك العادل بوضع سلاسل في أيام الجُمع على الطريق المؤدية إلى الجامع كيلا تصل الدواب إليه، كالسلسلة الممدودة الآن على مدخل سوق الحميدية، في موضع باب النصر الذي كان أحد أبواب دمشق (١).
وفي سنة ٦٦٣ بلّط الطريق من باب الجامع إلى القناة التي كانت عند درجات المسكية التي أُزيلت من أكثر من خمسين سنة ونحن نعرفها، وعُمل إلى جانبها القبلي بركة واشذروان (الشاذروان معناه عندهم لسان من البناء يتدفق منه الماء أو نحو ذلك، ولا يزال يُستعمل بهذا المعنى في الحجاز. والكلمة فارسية الأصل)، وغُطّيت الساقية التي كانت هناك، وجُعل للبركة أنابيب يجري فيها الماء إلى الجهة المقابلة، وسُحب ماؤها من نهر قنوات لينتفع بها الناس عند انقطاع ماء نهر نابلس (بانياس).
ولقد خبّرني ناظر الجامع الشيخ حمدي الحلبي أن تلك الساقية لا تزال موجودة ولكنها مغطّاة وهي تمرّ تحت بيت الخطابة.
النوفرة:
وكان من عنايتهم بتجميل مداخل الأموي، أن أُقيمت الفوّارة (النوفرة) أسفل درج المسجد عند باب جيرون. وقد أنشئت سنة ٤١٦ وجُرّ إليها الماء من نهر قنوات ظاهر قصر حجاج (نسبة للحجاج بن الوليد بن عبد الملك)،
_________
(١) (رآه ابن جبير وذكره في رحلته واندثر من عهد بعيد). ومن المصادفات غير المقصودة أن سُمّي الشارع المقابل له بشارع النصر وهو أول شارع حديث في دمشق فتحه جمال باشا سنة ١٩١٦ وكان يسمى باسمه.
1 / 16
فوصل إليها الماء ليلة الجمعة ٧ ربيع الأول ٤١٧، وكان القائم بإنشائها القاضي حمزة الحسيني ناظر الجامع.
وسقطت سنة ٤٥٧ من جِمال احتكّت بها فأُعيد إنشاؤها. ثم سقطت عمدُها وما عليها في حريق اللبادين (النوفرة) وباب الساعات في سنة ٥١٦، وكان حريقًا عظيمًا. وأعيد بناؤها.
وفي سنة ٥١٤ أُقيم عليها شاذروان.
وفي سنة ٦٠٧ تخرّبت فأصلحت، وجُدّد الشاذروان والبركة، وبُني أمامها المسجد وجُعل له إمام راتب.
وفي سنة ٨١٤ بيض شاذروان الفوارة، وأُعيد جريُ الماء فيها بعدما انقطع أمدًا.
أبواب الأموي:
وللمسجد ستة أبواب:
هذا الباب الذي تقف عليه الآن وهو باب البريد، وهو كما ترون ثلاثة أبواب، باب كبير في الوسط، وبابان على جنبيه، وكان ثاني البابين الرئيسين للمعبد.
أما الباب الرئيسي الأول فهو باب جيرون المقابل له، وعُرف بعد القرن الخامس بباب الساعات وباب اللبادين، وهو مثله في ثلاثة أبواب ويسمى الآن باب النوفرة، وقوسه لا يزال كما كان من القديم. وقد بقي باب المعبد الأصلي وهو من خشب الصنوبر البالغ المتانة، وكان مصفحًا بالنحاس، له مامير كبار بارزة إلى حريق سنة ٧٥٣ فتشوّه وأثّر فيه الحريق فنقل إلى خزانة الحاصل (إي إلى المستودع) ثم فُقد. وقَدّر المؤرخون عمر هذا الباب حين الحريق بأكثر من ألف سنة.
ثم الباب المسدود الآن وهو وراء المحراب وله باب كبير في
1 / 17
الوسط وصغيران على الجانبين وكان يدخل معاوية والخلفاء من الأوسط، فلما بنى الوليد وأزال الكنيسة صار الخلفاء يدخلون من الباب الأصغر على يسار المحراب.
والباب القبلي هو الذي كان يُعرف بباب الزيادة، وكان يسمى باب الساعات، ثم انتقل هذا الإسم إلى باب جيرون لأن الساعات نُقلت إليه، ويسمى الآن باب القوافين.
وباب الناطفانيين وهو باب الفراديس ويسمى الآن باب العمارة.
والباب المحدث إلى مدرسة الكلاسة.
وفي سنة ٦٠٧ جُدّد باب البريد (أي الأبواب الثلاثة) وركّبت عليها صفائح النحاس الأصفر. وجدّده الملك الظاهر كذلك سنة ٦٧٣.
وفي سنة ٧١٩ حلّيت الأبواب وحسّنت، كان قد سُدّ البابان الصغيران من الباب الشرقي (باب جيرون) بعد حادثة تيمورلنك، وبُنيت دكاكين في رحبة الجامع فهُدّمت أول سنة ٨٢٠، ورُكّب البابان الصغيران الغربيان سنة ٨١٩، والبابان الشرقيان سنة ٨٢٠، وقد جُدّدت صفائح النحاس على الأبواب حديثًا (١).
خلع النعال:
ولنخلع الآن النعال ولندخل.
وكان الدخول إلى المساجد في أول الإسلام بالنعال، لأن الأرض في الحجاز جافة والمساجد غير مفروشة، وكذلك كان يُدخل إلى صحن الأموي، كما يظهر، وفي ربيع الآن سنة ٨٢٧ فُوّض النظر على الجامع إلى إمامه الحنفي، وهو رجل مصري يقال له تقي الدين العمادي، فألزم الناس ألا
_________
(١) انظر الفصل الملحق بهذا الكتاب.
1 / 18
يمشوا في الصحن إلا حفاة، فشقّ ذلك عليهم، ولكنه أصرّ وعمل على الأبواب درابزينات (١) وحواجز لخلع النعال وبقي ذلك إلى شوال من تلك السنة، ثم عُزل العمادي، وعاد الناس إلى ما كانوا عليه.
وفي سنة ٧٢٢ لما جُدّد المسجد بعد حادثة التتار، منع ناظر الجامع ابن المرحل (وهو محد بن عمر العثماني) الدخول بالنعال، بأمر نائب الشام تنكز. وفي شعبان سنة ٨١٦ سُمح بالمشي فيه بالنعال، ثم مُنع ذلك في وقت من الأوقات، واستمر المنع إلى الآن.
...
_________
(١) كلمة (درابزين) معرّبة من قديم، ولا تزال مستعملة عند أهل الشام إلى الآن.
1 / 19
في صحن الأموي
لقد دخلنا من باب البريد، نحن بين بابين على اليمين وعلى اليسار، لندخل من اليسار، هذه القاعة الكبيرة التي اتخذتها دائرة الأوقاف للاستقبال هي مشهد عثمان.
والمشاهد مساجد صغيرة ملحقة بالجامع، كان لكل منها إمام خاص.
فإذا خرجنا منه، وجدنا بعده بابًا لغرفة واسعة، وكانت تسمى قديمًا بيت الزيت الغربي، وكانت (كما هي اليوم) مستودعًا للمسجد.
فإذا صرنا في زاوية الرواق، وجدنا آثار غرفة، كانت هناك قديمًا هي زاوية الغزالي لأنه نزل بها، وهي في الأصل أساس الصومعة الغربية التي أُزليت هي والشرقية المقابلة لها قبل الفتح الإسلامي.
وهذا الباب الصغير المفتوح في شمال المسجد، هو باب مدرسة الكلاّسة التي أنشأها نور الدين سنة ٥٥٥، ثم احترقت هي ومنارة العروس بعد إنشائها بأمد يسير، فجدّدها صلاح الدين هي والمنارة، وهذه هي المنارة الرئيسية اليوم، وفيها أذان الجماعة الذي أُحدث في عصور متأخرة. ذلك لأنها تطل على صحن المسجد، وفيها الآلة الفلكية التي تسمى البسيط، والبسيط الذي كان فيها من صنع ابن الشاطر رئيس المؤذنين بالجامع في القرن الثامن، ثم انكسر بيد جدنا الشيخ محمد الطنطاوي المتوفى سنة ١٣٠٤، فصنع البسيط الموضوع الآن، ويقول
1 / 22
الشيخ الخاني في كتابه "الحدائق": إنه جاء أكمل من الأول إذ زاد فيه قوس الباقي للفجر (١).
وبعد المنارة باب الفراديس، ثم الخانقاه (وأصلها خانه قاه أي دار العبادة) السميساطية، بناها السميساطي المتوفى سنة ٤٥٣ وكانت في الأصل دار عمر بن عبد العزيز، ثم نوافذ التربة الكاملية التي دُفن فيها الملك الكامل الأيوبي، ثم مشهد زين العابدين المعروف اليوم بمشهد الحسين، في شرقي الصحن، وفيه الآن القبر المشهور أن في رأس الحسين، وفي المسجد الملاصق للأزهر في مصر قبر آخر لرأس الحسين. ولابن تيمية رسالة في تحقيق مدفن الرأس مطبوعة معروفة،
ينفي بها أن يكون الرأس في مصر. ثم باب جيرون.
القباب:
وفي الصحن ثلاث قباب.
أولاها: القبة الغربية (قبة المال)، أنشأها الفضل بن صالح بن علي العباسي (ابن عم المنصور)، لما كان أميرَ دمشق سنة ١٧١ أيام المهدي، ويظهر أنها كانت مغلقة، والناس يتوهمون أن فيها مالًا، ولم أجد خبرًا لفتحها إلا ما كان سنة ٩٢٢ هإذ فتحها (سيباي) فلم يجد فيها إلا أوراقًا
_________
(١) وقال في "منادمة الأطلال":
وقد بقي البسيط الذي صنعه ابن الشاطر إلى سنة ١٢٩٠ هوكان شيخنا الشيخ محمد الشهير بالطنطاوي إمامًا في فن الهيئة والميقات في دمشق، فرآه قد اختل لمرور السنين فجاء يحرّره فانكسر فصنع غيره ولكنه رسمه على الأفق الحقيقي، وقد حصل له معاكسات من أهل دمشق وهجاه بعض ذوي الخلاعة والعقل المنحرف. ثم إنه رسم آخر على الأفق المرئي ووضعه في جامع الدقاق في الميدان.
1 / 23
ومصاحف بالخط الكوفي، وقد فُتحت في سنة ١٣٠٦ فوُجدت فيها مصاحف ومخطوطات نُقلت إلى إسطنبول.
ثانيتهما: القبة الشرقية، بُنيت كذلك أيام المهدي سنة ١٦٠، وتُعرف بقبة زين العابدين، وكانت تُسمى قبة يزيد، وتُسمى الآن قبة الساعات إذ كانت فيها ساعات المسجد.
والثالثة: القبة التي على بركة الماء، وقد كانت من الرخام، وأُقيمت سنة ٣٦٩ (١)، وكان لها أنابيب من نحاس قيل في وصفها:
فوارة كلما فارت فرت كبدي ... وماؤها فاض بالأنفاس فاندفعا
كأنها الكعبة العظمى فكل فتى ... من حيث قابل أنبوبًا لها ركعا
وسمعت أنها أزيلت الآن.
البلاط:
كانت أرض الصحن كلها مغطاة بفصوص الفسيفساء، لم يكن فيه بلاط، وبقي ذلك إلى حريق سنة ٤٦١، فذهب كله وصارت أرضه طينًا في الشتاء وغبارًا في الصيف مهجورة، وبقيت كذلك إلى شعبان سنة ٦٠٢، فهُدمت القنطرة الرومانية عند الباب الشرقي، ونُشرت حجارتها، وبدئ بتبليط صحن الجامع الأموي على عهد الوزير صفي الدين ... وزير العادل، وكمل تبليطه سنة ٦٠٤، وذلك أنهم لما أرادوا فتح نوافذ للتربة الكامية المحدثة على الجامع، لم يمكّنوهم من ذلك إلا بشرط تبليطه.
وفي سنة ٦١١ جُدّد بلاط أرض الجيامع من الداخل، بعدما صارت حفرًا و(جُوَرًا)، وتم سنة ٦١٤، ووضع متولّي دمشق مبارز الدين إبراهيم (المتوفّى سنة ٦٢٣) آخر بلاطة بيده، وكانت عند باب الزيادة، وكان ذلك على عهد الملك العادل.
وكان الملك الظاهر قد أصلح في الجامع إصلاحات كثيرة، منها أنه فرش
_________
(١) وفي "منادمة الأطلال" ٣٩٦.
1 / 24
باب البريد بالبلاط نحو سنة ٦٧٠ هـ، أما البلاط الحالي فقد رصف نحو سنة ١٣٠٠، على عهد الناظر الشيخ أحمد الحلبي، وقد تكسّر من إلقاء الأعمدة عليه عند عمارة المسجد بعد الحريق الأخير.
ومستوى أرض الجامع اليوم أعلى من أرضه على عهد الوليد. وتبيّن من حفريات مهندس الأوقاف (١) من أمد قريب، حول قبة المال، أن قواعد الأعمدة على عمق ثلاثة أمتار (٢)، والقبة بُنيت أيام المهدي العباسي، وأخبرني جار الجامع الشيخ عبد القادر العاني أنه رأى عند الحفر لتجديد الحائط قطعة من أرض الجامع الأصلية مغطاة بفصوص على شكل الفسيفساء على عمق مترين ونصف، ولكن هذه الفصوص أكبر من فصوص فسيفساء الجدران. وأقدم قطعة من البلاط اليوم هي التي أمام العمود الرابع من الرواق الغربي، وفيها حجران كبيران يظهر أنهما من القنطرة التي هدمت لرصف الجامع بالبلاط سنة ٦٠٢.
_________
(١) إيكوشار.
(٢) أما أرض الجامع فالغالب أنها كانت تحت الأرض الحالية بنحو نصف متر فقط.
1 / 25