[94_2]
الأرض، ووجدوا عظيما من الملك، وغلبوا على كثير من الخلق، ولبث قيهم عقد الأمر، فما استنبطوا شيئا بعقولهم، ولا ابتدعوا باقي حكم في نفوسهم. قلنا: فالروم. قال: أصحاب صنعة. قلنا: فالصين. قال: أصحاب طرفة. قلنا: الهند. قال: أصحاب فلسفة. قلنا: السودان. قال: شر خلق الله. قلنا الترك. قال: كلاب مختلسة. قلنا: الخزر. قال: بقر سائمة. قلنا: فقل. قال: العرب. قال فضحكنا فقال: أما أني ما أردت موافقتكم، ولكن إذ فاتني حظي من النسبة فلا يفوتني حظي من المعرفة ، أن العرب حكمت على غير مثال مثل لها، وآثار أثرت: أصحاب إبل وغنم، وسكان شعر وأدم، يجود أحدهم بقوته، ويتفضل بمجهوده، ويشارك في ميسوره ومعسوره، ويصف الشيء بعقله فيكون قدوة، ويفعله فيصير حجة، ويحسن ما شاء فيحسن، ويقبح ما شاء فيقبح، أدبتهم أنفسهم، ورفعتهمهممهم، وأعلتهم قلوبهم وألسنتهم؛ فلم يزل حباء الله فيهم، وحباؤهم في أنفسهم، حتى رفع لهم الفخر، وبلغ بهم أشرف الذكر، وختم لهم بملكهم الدنيا على الدهر، وافتتح دينه وخلافته بهم إلى الحشر، على الخير فيهم ولهم. فقال: (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) فمن وضع حقهم خسر، ومن أنكر فضلهم خصم، ودفع الحق بالسان أكبت للجنان اه.
إنا إذا حكمنا بالقليل الباقي من رسائل ابن المقفع وكتبه، وهي كافية في إنارة وجوه الحكم عليه، نجزم بأنه كان فيما يكتب يتروى لا يتسرع ولا يبتده، وقد يرتجل وينشئ أفكاره وأفكار غيره إنشاء، يصبها نقرة واحدة في قالب واحد، ثم هو في ذاته بعيد تزكية النفس، ولا يفاخر ولا يتجمد، ولا يناقش خصما، يقول ما يعلم، لا يأبه لغير ذلك؛ ولقد تجلى النبل والعظمة في قوله وفعله، وأن الحق طلبته، لا يبالي عذل عاذل، ولا صولة متطاول، ولا يصانع من يصانعه، ولا يماري من ماراه، يتلطف في الأداء، ويربأ بنفسه عن مماحكات المماحكين،
صفحة ٩٤