إلا أن دور لجنة حقوق الإنسان في هذه العملية لم يكن واضحا؛ فقد سمحت اللجنة لأكثر حالات انتهاك حقوق الإنسان فظاعة أن تمر دون حساب؛ في جمهورية الصين الشعبية تسبب مشروع «القفزة العظيمة إلى الأمام» لماو تسي تونج في الخمسينيات في وفاة الملايين (ثلاثون مليونا حسب زعم البعض) من مواطنيه، وكأن هذا لم يكن كافيا، فدشن ماو أيضا حملة ترهيب واسعة النطاق في أواخر الستينيات عرفت باسم «الثورة الثقافية »، وكان «العقاب» الذي نزل بجمهورية الصين الشعبية هو منحها مقعد تايوان بالأمم المتحدة، وأن تصير عضوا دائما بمجلس الأمن في عام 1971. ضمت الحالات الأخرى التي مرت دون حساب حملات فرض النظام التي شنها السوفييت وحلف وارسو في ألمانيا الشرقية (1953)، والمجر (1956)، وتشيكوسلوفاكيا (1968). وفي كمبوديا تمكن نظام الخمير الحمر من قتل الملايين (ثمن سكان الدولة) في أواخر السبعينيات إلى أن أطيح به في أعقاب غزو خارجي من جانب دولة أخرى تنتهك حقوق الإنسان على نحو مستمر؛ فيتنام. إن إرساء الديمقراطية والاحترام المتزايد لحقوق الإنسان الذي صاحبه كان بالأساس - إن لم يكن دوما - ناتجا عن تغير البيئة الدولية - انهيار النظام العالمي القائم على الحرب الباردة - أكثر من كونه ناتجا عن نشاط الأمم المتحدة المتزايد في هذا المجال.
في الواقع، بحلول التسعينيات كانت لجنة حقوق الإنسان قد فقدت الكثير من مكانتها كحام فاعل لحقوق الإنسان، وهناك أسباب عديدة وراء ذلك. فكما رأينا من قبل، لا يحق للمقررين الخصوصيين زيارة الدول إلا إذا دعوا لذلك، ومن غير المرجح لدولة تنتهك حقوق الإنسان على نحو واسع أن تفعل هذا. واللجنة نفسها كانت تتكون من ثلاثة وخمسين عضوا، أغلبهم يمثلون دولا ترتكب - أو كانت متورطة في ارتكاب - انتهاكات لحقوق الإنسان (مثل جمهورية الصين الشعبية والجزائر وسوريا).
المشكلة الأساسية التي ظهرت - وظلت قائمة إلى الآن - يمكن تلخيصها على النحو الآتي: من المفترض بلجنة حقوق الإنسان أن تسمو فوق مصالح الدول القومية، وأن تقدم توصيات محايدة مبنية على معايير قانونية معينة مقبولة على نطاق واسع. لكن على مر السنين، اصطبغت اللجنة بالصبغة السياسية على نحو كبير، ونتيجة لهذا عجزت عن القيام بمهمتها على نحو فعال إبان حقبة الحرب الباردة. وبحلول أوائل التسعينيات كانت اللجنة قد فقدت الكثير من مصداقيتها.
كانت الاستجابة لهذه المخاوف - بصورة ما - هي الاستجابة المعتادة من طرف الأمم المتحدة: أن تنظم وتعقد مؤتمرات كبيرة. عقد المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان - الذي اقترح إقامته لأول مرة من جانب الجمعية العامة في عام 1989 - أخيرا في صيف عام 1993 في فيينا ، وقد جمع المؤتمر ممثلي 171 دولة و800 منظمة غير حكومية، إلى جانب المؤسسات الأكاديمية وغيرها من الأطراف المعنية. وفي 25 يونيو 1993، تبنى المؤتمر إعلان فيينا وبرنامج العمل، وهي الوثيقة التي أكدت على حماية حقوق المرأة والطفل والشعوب الأصلية. وأسس المؤتمر مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان الذي مثل خطوة تنظيمية كبيرة. لقد بدأت عملية الإصلاح. (3) خطط العمل والهياكل في الألفية الجديدة
كانت متابعة قرارات مؤتمر فيينا المنعقد في عام 1993 شبه فورية. كان أول مفوض سام لحقوق الإنسان هو الإكوادوري خوسيه أيالا لاسو، الذي تولي منصبه في أبريل عام 1994. خلفته الرئيسة الأيرلندية السابقة روبنسون، ماري (1997-2002)، التي يبدو أن الأمين العام كوفي عنان اختارها لهذا المنصب بنفسه. وقد صارت ماري روبنسون - السياسية الناجحة ذات الشعبية الكبيرة - مدافعة عالمية لا تكل عن حقوق الإنسان. لم تهب ماري روبنسون - أول مفوض سام يزور إقليم التبت الذي تحتله الصين - القضايا المثيرة للجدل، حتى إنها انتقدت بلدها الأم أيرلندا لاستغلالها العمالة الأجنبية، والولايات المتحدة لتطبيقها عقوبة الإعدام.
لدى تقاعد ماري روبنسون في عام 2002 خلفها مفوض سام مرموق آخر هو البرازيلي سيرجيو فييرا دي ميللو. عمل دي ميللو، المتمرس في عدد من أزمات اللاجئين، معظم حياته المهنية بالأمم المتحدة، وذلك منذ الستينيات. كان قد حظي بإطراء الصحافة الدولية لإدارته عملية انتقال تيمور الشرقية من الاحتلال الإندونيسي إلى الاستقلال بين عامي 1999 و2002. رأى الكثيرون فيه خلفا محتملا لكوفي عنان، بيد أن حياته المهنية انتهت على نحو مأساوي؛ ففي مايو 2003، قبل دي ميللو الذهاب في مهمة أخرى شديدة الأهمية، وأن يصير المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق المحتلة، وفي أغسطس 2003، قتل دي ميللو في بغداد في أعقاب هجوم إرهابي. كثيرا ما تنتقد الأمم المتحدة بسبب دبلوماسييها المنمقين الذين يتلقون رواتب عالية، كان هذا الوصف ينطبق على دي ميللو؛ بيد أن ظروف وفاته كانت تذكيرا صادما - مماثلا تقريبا لمقتل الأمين العام داج همرشولد في الكونغو خلال مهمة وساطة - بالمخاطر التي ينطوي عليها العمل لحساب المنظمة الدولية.
منذ وفاة دي ميللو ظلت لويز آربور - محامية حقوق الإنسان الكندية - تشغل المنصب بمكتب المفوضية السامية. مثل تعيينها في هذا المنصب تحولا نحو منحى قانوني أكثر؛ فآربور - العضو بالمحكمة العليا الكندية - كانت رئيس هيئة الادعاء السابقة لجرائم الحرب أمام المحكمة الجنائية الدولية لرواندا والمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في لاهاي. وفي هذه الوظيفة وجهت آربور الاتهام للرئيس اليوغوسلافي سلوبودان ميلوسوفيتش؛ لارتكابه جرائم حرب. مغزى هذا الفعل تمثل في أن ميلوسوفيتش كان أول رئيس دولة يواجه بمثل هذا الاتهام وهو في سدة الحكم؛ ومن ثم استهدفت ولاية آربور كمفوض سام مضاعفة الجهود من أجل إخضاع منتهكي حقوق الإنسان للمحاكمة.
إضافة إلى قوة الشخصيات التي خدمت في هذا المنصب، مثل تأسيس مكتب المفوضية السامية تحولا بارزا بعدد من الطرق الأخرى؛ فبفضل مكانته كوكيل للأمين العام للأمم المتحدة، يقترب مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان من قمة الهرم الوظيفي بالأمم المتحدة. وبفضل وجود المقر الرئيسي للمكتب في جنيف، أرسى المكتب لنفسه حضورا عالميا من خلال خلق شبكة من المكاتب الإقليمية والوطنية، ومن خلال تعيين مستشارين لحقوق الإنسان في مناطق معينة. كل هذا النشاط - إلى جانب تلقي دفعة عامة للتأكيد على خطة حقوق الإنسان من قبل الأمناء العموم المتعاقبين (بطرس بطرس غالي وكوفي عنان) - كان له أثر إيجابي، وفي القرن الحادي والعشرين صار مرور انتهاكات حقوق الإنسان دون حساب أمرا متزايد الصعوبة.
ومع الأسف، لا يعني هذا أن مثل هذه الانتهاكات قد ولت إلى غير رجعة؛ ففي السنوات القليلة الأولى من عملها اضطرت المفوضية السامية لحقوق الإنسان لمواجهة سلسلة من الأزمات، مثل التطهير العرقي في يوغوسلافيا السابقة (ومن بينها مذبحة سربرينيتشا للبوسنيين على يد الصرب)، وعمليات الإبادة الجماعية في رواندا في عام 1994 التي أدت إلى القتل الممنهج لما يقارب 800 ألف من التوتسي. في النهاية، حتى أكثر المفوضين السامين نشاطا - مثل ماري روبنسون - لم يستطع فعل الكثير لمنع المنتهكين من تجاهل المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، سواء أكان هؤلاء حركة طالبان في أفغانستان أم نظام صدام حسين في العراق أم الحكومات الشيوعية في الصين أم نظيرتها - الأسوأ بكثير - في كوريا الشمالية، أم ديكتاتوريات الحزب الواحد العديدة بدول جنوب الصحراء الأفريقية.
لكن مثل هذه النقاط السوداء لا تعني أنه لم يتحقق أي تقدم؛ ففي أمريكا الوسطى حدث تقدم في عملية إرساء الديمقراطية في حين خلفت المنطقة وراءها إرثا طويلا من الحكم الشمولي اليميني وانتهاكات حقوق الإنسان. ولكي تضمن لجنة حقوق الإنسان إحراز تقدم على طريق تطبيق ممارسات حقوق إنسان إيجابية، تعمل اللجنة مع الحكومات الوطنية، وأحيانا - كما حدث في عام 2004 في جواتيمالا - تفتح مكاتب ميدانية لها كي تراقب التطورات في بلدان بعينها. وفي أجزاء عديدة من أفريقيا، تمارس مكاتب لجنة حقوق الإنسان الميدانية الثلاثة عشر ضوابط وضغوطا مشابهة؛ للتأكد من أن كل شيء - بداية من حقوق الأطفال وصولا إلى حقوق التصويت - يرصد. إن التحديات عظيمة، ومنذ تحول جنوب أفريقيا من سياسة التفرقة العنصرية إلى الديمقراطية، قدم هذا البلد مثالا مشجعا للخطوات التي تؤخذ على طريق تعزيز حقوق الإنسان. ومع هذا ففي عام 2007، أورد مكتب لجنة حقوق الإنسان بجنوب أفريقيا في بريتوريا عددا ضخما من الأهداف لعملياته، يتراوح من الحملات التعليمية إلى الضغط على الحكومة لتحسين جهودها في حماية الأقليات والمجموعات المهمشة.
صفحة غير معروفة