طفلها لم يعرف اللعب بالمسدسات أو العرائس أو أي لعب أخرى، فاللعب للأطفال وهو ليس طفلا، يولد واقفا على قدميه، ويجري بين أكوام السباخ ويضحك وحده.
هذه الضحكة هي التي تميزه عن الأطفال، فهي ضحكة بغير صوت، بغير حركة في عضلات الوجه، لكن عينيه الصغيرتين تكسوهما دمعة كاللمعة، تشع من تحتها نقطة ضوء، كنجم وحيد ساهر في سماء بغير قمر.
سارت حميدة في الليل تبحث عن طفلها، دارت حول أكوام السباخ، نظرت خلف صفائح القمامة، رأت بجوار الجدار جسدا صغيرا متكورا حول نفسه، عرفته على الفور، مدت ذراعيها في الظلام لتحوطه بصدرها، شق الظلمة ضوء أصفر وظهرت العين النحاسية، دائما هناك عين مستديرة ترقب بغير جفن كعين الثعبان، رأت آلة القتل مختفية تتدلى بحذاء الفخذ، لم يكن ثعبانا ، كان حية أنثى، لكن حميدة كانت تدرك أن أي شيء يقتل لا بد أن يكون مذكرا، فصرخت لطفلها: «احترس منه، سيقتلك!»
دخلت الأنياب في بطن الساق الصغيرة الرفيعة، سال الدم كذيل طويل رفيع، بلل أصابعها الصغيرة، وهبط إلى بطن قدمها، رفعت رأسها فوق، ورأت عيني أمها الواسعتين السوداوين ثابتتين في عينها، تنظران إليها في صمت، والطرحة السوداء تغطي رأسها وصدرها وبطنها، فتحت فمها لتسأل، لكن الكف الكبيرة أصبحت فوق فمها، والأنفاس والهواء وحفيف الشجر كلها أصبحت بغير صوت، تجمدت في كتلة سوداء صماء بغير مسام، والطرحة السوداء ذابت في الليل كما تذوب قطرة الماء في البحر.
لكن الساقين تدبان من خلفها، طويلتين شاهقتين كالموجة العالية، تتبعها في الخضم، ترصد مكانها، تغوص معها إلى القاع، وتطفو كالجثث فوق السطح، وتتوه معها في وسط البحر، ثم تعود تظهر عند الشط، وترتد معها فوق حافة الصخر، وتضيع في الزبد الأبيض، تتأرجح معها بين المد والجزر.
المد كان ضعيفا والجزر أضعف، فالبحر لم يكن بحرا، وإنما نهر النيل ومياهه راكدة في القاع، حركتها بطيئة، ثقيلة، كقدم نصف مشلولة، تدوس فوق الأرض وتثبت ولا ترتفع مرة أخرى لكن حميدو يشدها بكل قوته، بكل عضلات الساق الرفيعة المعوجة، وترتفع القدم فوق الأرض وتثبت، ولا تهبط مرة أخرى، لكن الأرض تشدها بكل قوتها فتسقط فوقها ثقيلة كقدم من حجر.
الصباح كان مبكرا والشمس لا تزال مائلة، فارتسم ظله فوق الأرض، طويل ورفيع معوج، كقوس قزح، الرأس حليق، والكتفان غير مستويتين، كتف أعلى من كتف، وساق أطول من ساق، كالأعرج، والأطفال من خلفه يضحكون، ويركبون فوق ظهره.
أصوات الأطفال وصراخهم يترامى إليه من فوق رأسه، وأقدامهم تدب فوق ظهره كعجلات القطار، كل واحد يمسك بذيل الآخر، ويصفرون، وترتفع الصفارة في الجو فيجري كل منهم ليختفي من «المساكة» وراء كوم سباخ أو في الزريبة أو خلف عمد النور.
عمود النور كان طويلا ممتدا في السماء ورأسه يلتصق بالقمر، القمر كان نوره أبيض، سقط على وجه حميدة وهي مختفية وراء العمود، فأصبح وجهها أبيض، وذراعاها بيضاوين، وساقاها بيضاوين، وجسدها أبيض أملس منزوع الشعر، لكن منابت الشعر ظلت بارزة في قشعريرة، سرت فوق جلدها.
امتدت يدها البيضاء ولمست جلدها، جسدها وحده هو الذي يطمئنها، كل الأشياء الأخرى خارج جسدها غير مطمئنة، أجسام غريبة تكمن في الأركان، ووراء الجدران وخلف الأبواب، وفي ثنيات الشوارع المظلمة، وفي زوايا كل شيء، الزوايا من الخارج تبدو ملساء بريئة، كأنما لا شيء داخلها، ولكن حينما ينفرج الضلعان وتتباعد الساقان تظهر آلة القتل بوضوح صلبة ومنتصبة.
صفحة غير معروفة