وحين تسعل ينتفخ شدقاها كشدقي أبيها، وتقلد صوته الخشن، وتقف في صحن الدار كما يقف، وتلقي برأسها إلى الوراء في خيلاء كما يفعل، نافخة شدقيها، واضعة يدها اليمنى في خصرها.
من يرها في تلك اللحظة كان يظن أنها حميدو، هي نفسها كانت تظن أنها حميدو وتدب على الأرض بقدمين قويتين وتشمر جلبابها عن ساقيها الرفيعتين الصلبتين، وتجري نحو الصبيان صائحة: أنا حميدو. ويلعبون عسكر وحرامية، أو لعبة القطار، يمسك كل واحد منهم بذيل الآخر، وينطلقون يدبون على الأرض ويصفرون.
وترتفع الصفارة في الليل، ويرتج جسد حميدة الصغير وهي واقفة قرب القطار، وتتكثف الظلمة من خلفها على شكل يد كبيرة تندفع بقوة في ظهرها وتدفعها إلى الأمام، وتجري حميدة في الظلام، لكن الظلمة تنشق بعد لحظة عن عشر عيون صفراء تلمع كالأزرار النحاسية، ونصل أبيض حاد يتدلى في الخفاء بحذاء الساقين الطويلتين، وتلف طرحتها السوداء حول رأسها وكتفيها وصدرها وبطنها، وتنزلق في سواد الليل كقطعة من سواد الليل، لكن الساقين بنصلهما الحاد تجريان خلفها، والقدمين الكبيرتين تدبان وراءها، دبيبا له رنين كاصطكاك الحديد بالحديد. •••
حميدو كان لا يزال في الخدمة، في كعب حذائه قطعة من الحديد تدق على الأسفلت في بطء وثقل كحافر بغل مصاب بضربة شمس، الشمس كانت حارقة، فالمدينة هي القاهرة والوقت هو الظهيرة والشهر أغسطس، ورأس حميدو أملس حليق بغير شعرة واحدة، القرص الملتهب الأحمر يلتصق بجلدة الرأس، وعيناه ثقبان تنفذ منهما النار المتجمعة داخل الجمجمة، وأنفه أيضا له ثقبان يقذفان اللهب وأذناه بالمثل، وفتحة الفم، وفتحة الشرج، كل فتحات جسمه تفرز النار الحمراء قطعا متجمدة صغيرة وساخنة كالدم المتجلط.
حملق في القرص الأحمر الدائري، رآه قرصين اثنين أحمرين، داخل كل قرص دائرة سوداء كالنني تلمع، وحول النني دائرة بيضاء صافية كعيون الأطفال، حملق في العينين وتعرف على اللمعة، صاح: «حميدة»، وشد الآلة الصلبة من جوار فخذه إلى فوق، وصوبها في النقطة المحددة بالضبط، في منتصف المسافة بين العينين، وسمع صوت أبيه الخشن: «اضغط»، وضغط على الزناد.
سقط الجسد متضرجا بالدماء، والعينان مفتوحتان ثابتتان مرفوعتان إلى السماء، والسماء مكتظة بالآلهة، وقد جلس كل منهم واضعا ساقا فوق ساق، والساق العلوية متدلية من بين السحب (وبذلك تكون مرئية بالعين المجردة) تهتز بحركة أفقية منظمة كبندول الساعة، والشمس كانت قد غابت والليل هبط فعزفت الموسيقى النشيد الوطني احتفالا بالنصر، وارتفعت الأكف بالتصفيق حاملة الجسد الميت إلى فوق، لامس أنف الميت بطن قدم أحد الآلهة وشم الرائحة المألوفة التي تنبعث من الأقدام التي لا يغسلها أصحابها، أشاح الميت بأنفه بعيدا عن الآلهة، فارتفع الهتاف وانشق الجراب الأسود عن وسام الاستشهاد في ميدان الشرف.
مد الميت يده الملوثة ببقع سوداء (بسبب جفاف الدم) ليتسلم الوسام، امتدت بسرعة يد أخرى نظيفة وأظافرها مشذبة وأخذت الوسام، لوح الميت يده في الهواء في غضب فامتلأت الظلمة بكشافات الضوء الأصفر مستديرة وجاحظة كالأزرار النحاسية.
وانفرجت شفتا حميدو في اندهاش، وسقط جسده الميت بين السيقان الطويلة يتدلى من بينها آلات القتل الصلبة، وانفرمت قدمه الحافية تحت الأحذية السميكة ذات الرقبة، وأصبحت الأرض كالعجين غاصت به قدمه الثانية، وساقاه غاصتا إلى الركبتين، ثم إلى منتصف فخذيه، حتى أعلى الفخذين، إلى منتصف بطنه، بالتدريج كان يغوص إلى منتصف صدره، والتفت قبضة الأرض حول عنقه، فأرخى رأسه فوق الأرض، ووجدها دافئة حانية كصدر أمه، فدفن وجهه بين ثدييها واستطاع أن يضع أنفه تحت الثدي الأيسر، المكان الأمين القديم المفضل لديه، لكن أمه أبعدته بيدها القوية كيد أبيه، ورفع رأسه إلى فوق فرأى يد أبيه الكبيرة بأصابعها الطويلة تلتف حول الوسام، وعيناه الواسعتان السوداوان ذات الشعيرات الدموية تحملقان في عينيه، مد حميدو يده، لكن يده رغم الزحام ظلت ممدودة في الهواء، حملقت العيون في أصابعه الملوثة بالدم ولم يصافحه أحد (كان الناس في ذلك الوقت يحتقرون المقتول ويحترمون القاتل)، وحميدو لم يكن قاتلا، هو الذي حدد النقطة في منتصف المسافة بين العينين وهو الذي ضغط على الزناد وهو الذي قتل، لكنه قتل بغير أن يصبح قاتلا، فالقاتل هو صاحب العار الذي لم يلوث يديه.
لكن العار لم يكن عار حميدو، وكان عليه أن يغسله فحسب (توزيع الاختصاصات كان إحدى سمات التقدم، فالبعض يقوم بالعار والبعض يقوم بعملية الغسل)، يسكب الماء من الجردل ويغسل كل شيء بعناية، الشعر والرأس والأذرع والأرجل، وثنيات الجلد تحت الحوافر، ويسمع الصوت الآمر من الداخل يقول: «خذ الحوافر فهي نصيبك»، وتستقر الحوافر داخل جريدة من الجرائد اليومية، وتدخل التاريخ باسم الزكاة، يحملها حميدو تحت إبطه، ويسير في الشارع مزهوا بها، ومن حين إلى حين ينظر تحت إبطه، ويرى الشعر الأسود الغزير ينشق عن وجه أبيض بغير دم، والعينان الميتتان واسعتان مرفوعتان إلى السماء.
وباستطلاع غريزي حملقت عينا حميدو في السماء، ورأى النجم الوحيد المحترق، ذيله الطويل الرفيع يمشي لامعا فوق السواد كخط من الدم الطازج الذي لم يتجمد بعد، ثم هبت نسمة جففت الدم، وأصبح النجم لونه أسود، والسماء كتلة واحدة مصمتة بغير مسام على الإطلاق.
صفحة غير معروفة