رد بصوت آمر غليظ: تروحي فين يا بت، أنتي محكوم عليكي.
كل شيء أصبح يتحرك بسرعة فائقة، بسرعة الأنفاس التي تلهث، وبسرعة العضلات التي تنقبض وتنبسط، سرعة غير عادية لا تحدث إلا في الأحلام، لكن الحلم لم يختلط هذه المرة، لم يكن هناك بائع يضرب بالعصا، وإنما هو ذكر له شارب خشن يحتك بوجهها، وتسد رائحة التبغ أنفها، وشعر صدره غزير، تلاحمت شعراته الطويلة والتصقت فوق الجلد بعرق سميك لزج.
وكل شيء توقف فجأة، لحظة سكون تشبه لحظة الموت، رفعت رأسها من فوق البلاط وتلفتت حولها، رأته راقدا على ظهره، عيناه مغمضتان ولا يتحرك، ظنت أنه مات، لكن شخيرا خافتا بدأ ينبعث من فمه المفتوح ، ما لبث أن ارتفع وأصبح كخرير ساقية عتيقة يجرها ثور منهك مريض، رفعت جسمها بهدوء من فوق الأرض، وشدت طرفي جلبابها المشطور فوق صدرها وبطنها، سارت على أطراف أصابعها إلى الباب، حركت رأسها بهدوء ونظرت خلفها، رأت العيون العشرين الصفراء مفتوحة تحملق فيها، فتحت الباب بسرعة.
رأت الشارع الواسع أمامها، فانطلقت فيه بكل قوتها تجري هاربة بغير توقف. •••
في تلك اللحظة، كان حميدو قد هبط من القطار، وأصبح ظهره ناحية الجنوب ووجهه ناحية الشمال، وعيناه أمامه تنظران، تحملقان في الوجوه المحتشدة خارج محطة باب الحديد، المحطة الرئيسية القديمة لمدينة القاهرة، وقدماه الحافيتان تنتقلان فوق الأرض الأسفلت، وجلبابه طويل واسع، تهتز من تحته السكين، وتتدلى بحذاء فخذه كطرف صناعي أو عضو مزروع.
ارتطم بوز السكين الحاد المدبب بلحم فخذه فاقشعر جسده، وسرت القشعريرة في عنقه ورأسه، ترنح، وكاد يسقط بين الأحذية الجلدية السميكة، لكنه شد عضلات ساقيه وظل منتصبا فوق قدميه الحافيتين، وعيناه تائهتان في الخضم الواسع المتلاطم، ترتفعان مع قمم العمارات الشاهقة، وتهبطان مع شعاع الشمس المنعكس على الأسفلت اللامع، وتدوران مع حركة الميدان المستدير، وفي مركز الدائرة تمثال حجري ضخم له رأس إنسان، التف حوله صفوف من البشر، والأعلام، وصفوف من العربات، تلف وتدور ثم تتفرع منتشرة في خطوط مستقيمة متعددة لا تلبث أن تتشابك وتصب في ميدان آخر، ثم تتفرع، وتنقسم الفروع إلى فروع، تتفرع، وتتشابك، وتتفرع بغير نهاية.
أخفى عينيه بيديه، وأسند رأسه إلى عمود نور، غلبه النوم فنام وهو واقف على قدميه، فتح عينيه على صوت، تلفت حوله، رأى الشارع الواسع هادئا خاليا من الناس والعربات، غارقا في ظلمة الليل، ثقب الظلمة بعينيه الحادتين، لمح شبحا يجري من بعيد، قدماه حافيتان، والجلباب الواسع الطويل يرتفع فوق البطن ارتفاعة مرئية واضحة.
انفرجت شفتاه وتدافعت أنفاسه لاهثا: حميدة، وانطلقت قدماه فوق الأسفلت، يده اليسرى مرفوعة أمامه تشق الظلمة، ويده اليمنى في جيبه تتحسس النصل الحاد الصلب، توقف الشبح في ركن مظلم، اقترب منه حميدو بخطوات بطيئة حذرة، أصبحت المسافة بينهما خطوة واحدة، سمع الصوت الخشن يهمس كالفحيح: «العار لا يغسله إلا الدم»، انتزع السلاح من جيبه وأخفاه خلف ظهره، كشف الركن المظلم فجأة ضوء كشاف متحرك، رأى وجه أمه من تحت الطرحة السوداء، صرخ، دوت صرخته في الليل فتوقف الضوء فوق وجهه، اقترب منه شخص لم ير عينيه في الظلام، لكن على كتفيه وفوق صدره رأى صفين من العيون المحملقة المستديرة تشع ضوءا أصفر.
انفرجت شفتاه ليسأل، لكن كفا كبيرة غليظة سقطت فوق صدغه، تبعتها كف أخرى فوق الصدغ الآخر، رفع ذراعه ليقاوم الصفعات لكن خمسة أصابع التفت حول ذراعه، استعان بذراعه الثانية فارتفعت في الجو ذراع خشبية كالشومة سقطت فوق رأسه.
حينما فتح حميدو عينيه شعر بصداع شديد، تحسس رأسه وعثر بين الشعر على الجرح تغطيه قشرة من الدم الجاف، هرشها فسقطت على الأرض إلى جوار حذاء ضخم يرتفع إلى رقبة جلدية تحوطها ثنية بنطلون من قماش سميك، والساقان طويلتان ترتفعان إلى صدر مربع عريض رشق عليه من الأمام وفوق الكتفين صفان من الأزرار الصفراء المستديرة ينعكس عليها ضوء مصباح خافت.
صفحة غير معروفة