ووقف الفياشيون - ملوك البحار - على شاطئ البحر مسبوهين دهشين يسأل بعضهم بعضا: من ذا الذي أرسى هذا الجبل الهائل مكان سفينتهم تلقاء المدينة حتى لحجبها عن أنظار السفن العابرة في اليم؟ والتفت الملك وكان واقفا بينهم فقال: «يا للآلهة! لقد ذكرت نبوءة قصها علي والدي فيما غبر من الزمان؛ فلقد ذكر لي أن شعبنا المجيد مأذون له من نبتيون أن يحمل الناس من كل فج، من ضل سبيله منهم إلى بلادهم مهما تناءت، وقد ذكر أيضا أن سفينة من سفننا بعد إذ ترتد من رحلة لها إلى بلد رجل غريب نازح ستغرق في اليم، ويبسق مكانها جبل عظيم شاهق يحجب شيرا عن البحر، وها قد تحققت النبوءة، فهلموا نقرب لإله البحار نبتيون باثني عشر عجلا جسدا تكون أعظم عجولنا وأعلاها قيمة؛ عسى أن يرثي لنا فيكشف عنا هذه الغمة، ولا يحول بين البحر وبين مدينتنا بهذا الطود الكبير الراسي.» وتفزع زعماء الفياشيون وبادروا إلى عجولهم فجزروها باسم نبتيون وتكبكبوا حول مذبحة فصلوا له وسبحوا بذكره، أما أوديسيوس فقد هب من نومه وهو لا يدري أين هو، ومع أنه كان ينام ألذ النوم فوق شاطئ بلاده فإنه لم يعرفها لطول ما شطت به النوى؛ لأن مينرفا الكريمة - سليلة جوف العظيم - كانت قد ألقت حوله ظلالا تحجبه عن أعين المارة؛ مخافة أن يعرفه أحد منهم قبل أن تلقنه من حكمها ما هو ضروري له في حالته هذه؛ كأنما أرادت ألا يستبينه أحد من مواطنيه ولا من أصدقائه وذويه، حتى يبطش البطشة الكبرى بالعشاق الفساق الذين استباحوا عرضه، واستحلوا بغير الحق زاده وخيره، وعمروا كالشياطين داره؛ لذلك موهت مينرفا كل شيء في عيني أوديسيوس، فالطرق مستقيمة مستطيلة والموانئ رحبة مترامية، والجبال ذاهبة في السماء، والدوح باسق يطاول الجوزاء، وكل شيء ليس مما عهده البطل في بلاده، ووقف يقلب عينيه في المشاهد المحدقة به، ثم تنهد من أعماقه، وبسط كفيه إلى السماء، وضرب بهما في برم على فخذيه ، وأنشأ يقول: «وبلاده علي وألف ويل! أي شعب من الشعوب يقيم بهذه الأرض يا ترى؟ أأجلاف ظلمة هم؟ أم أطهار أخيار يخبتون للآلهة؟ ليت شعري أين أخبئ هذه الكنوز والأحراز؟ وي! بل أيان أذهب أنا؟ لعمري لقد كنت أوثر ألا أنال شيئا منها من هؤلاء الفياشيين على أن أكون قد حللت بأرض ذي نخوة وذي نجيزة من ملوك الأرض غير ألكينوس هذا، فكان يرسلني آمنا سالما إلى بلادي، ماذا أصنع يا ربي؟ أأترك هذه الثروة الطائلة هنا؟ أأدعها فريسة حلالا لغيري من الناس، وأهيم في هذه البطحاء على وجهي؟ وا أسفاه! أهكذا يغرر بي فيلقوني في شاطئ غير شاطئ بلادي، وقد وعدوا أن يهبطوا بي مرفأ إيثاكا الأمين؟ اللهم يا جوف العظيم، يا من إليه بحار أبناء السبيل والمهاجرون والمساكين، انتقم لي يا رب الأرباب من هؤلاء الخونة المبطلين! ولكن يجدر بي قبل كل شيء أن أحصي أذخاري لأرى هل سلبني منها هؤلاء اللصوص شيئا؟» ثم راح يحصر كنوزه، فما وجد شيئا منها ناقصا أو غير موجود، وزاد ذلك في أشجانه، فأخذ يندب حظه، ويبكي على ما لقي من زمانه، وينشج نشيجا مؤلما لهذه الهجرة الظالمة عن أوطانه، وجعل يروح ويغدو على سيف البحر المضطرب وحيدا معنى، ويرسل دموعه وزفراته حتى بدت له آخر الأمر مينرفا في صورة راع صغير غض الإهاب عجيب الثياب جميل المحيا كأبناء الملوك، ملتفعا حول عنقه ومن فوق صدره بشفيف
5
صفيق طوي حولهما طيتين، وفي قدميه نعلان متواضعتان، وفي قبضته حربة ناعمة لامعة، وكانت مفاجأة سارة فوجئ بها أوديسيوس، فخطا خطوات عاجلة إلى الشاب وراح يسائله: «مرحبا أيها الغرانق الجميل، لقد كنت أول إنسي ألقاه هنا، فبحق هذا عليك أن تحميني وتحمي أذخاري هذه، وألا تلحق بأينا أذى، إني أتوسل إليك كما لو كنت أتوسل إلى أحد الآلهة أن تصدقني فيما أسألك عنه: أية بلاد هذه؟ وأي قوم يعيشون فيها؟ أهي جزيرة آهلة؟ أم حدور من بلاد مترامية؟ أخبرني بأربابك أيها الفتى.»
وقالت مينرفا - ذات العينين الزبرجديتين - تجيبه: «أيها الغريب اللاجئ، كم أنت ساذج! كيف تسائل عن هذه البلاد كأنك لست من أهلها؟ إنها بلاد ذات ذكر في المشارق والمغارب، ومنها وإليها تصدر الركبان إلى كل فج، ثم هي ليست بهماء مجهولة، بل هي جنة مأهولة، زاخرة الخيرات موفورة البركات، ففيها أنضر سهول القمح، وأبهج عرائس الكروم، وأخصب المراعي الخضر الحافلة بقطعان النعم والشاء، تسقى من ماء معين وأنهار وعيون، هذه يا رجل إيثاكا؛ إيثاكا المباركة التي استطالت شهرتها، واستطار ذكرها حتى ملأ الخافقين وجاوز طروادة ذات المجد التي لا تبعد شطآنها من أخايا.»
وشاع البشر في نفس أوديسيوس لما سمع الراعي الجميل يؤكد في لهجة قاطعة أن هذه البلاد هي إيثاكا الموعودة، وهز السرور أعطافه لما رأى من زهو الشاب وافتخاره بها، بيد أنه مع ذلك راح يتجاهل ويبدي عدم معرفته لهذه البلاد، ويحاول أن يخدع الفتى عن نفسه، وما يخدع إلا نفسه هو؛ قال: «أجل، لقد سمعت عن إيثاكا في أقاصي البحار، والناس يعرفونها حتى في كريت التي وصلت منها اليوم بعتادي هذا، تاركا فيها أبنائي وذوي رحمي، فارا بنفسي من الفعلة الهائلة التي فعلت. يا ويح لي! لقد قتلت العداء المعروف أرسيللو بن أيدومين العظيم الذي لم يكن يباريه في سرعة عدوه أحد. لقد حدثته نفسه أن يسلبني ما غنمت من كنوز طروادة وأسلابها، وما حصلت عليها إلا بعد قتال شديد، ولظى حرب، وركوب أهوال في ذلك اليم؛ وذاك لأني أبيت أن أقاتل تحت لوائه أو لواء سيده ومولاه، بل قدت فيلقا من الجند، فظفرت وانتصرت فكبرت عليه هذه، وحفظها لي، وأضمر في نفسه الغدر، فلما عدنا أدراجنا إلى أرض الوطن، حاول أن يسرقني كنوزي فأقصدته برمحي فأرديته، وكان معه زميل له شرير، فذبحته واستعنت عليهما بدجى الليل ودجنته، ثم هربت تحت أستار الظلام بأحرازي إلى الشاطئ، حيث حملتني سفينة فياشية رجوت ملاحيها أن يبحروا بي إلى شاطئ بيليا، أو إلى مرفأ إيليس، لكنهم وا أسفاه اضطروا إلى الإرساء هنا؛ لأن ريحا عاصفا قسرتهم على ذلك، فوصلنا هنا برغمنا في جنح الليل البهيم، ولقينا عناء عظيما في النزول بالمرفأ الأمين، ومع شدة حاجتهم إلى الطعام فإنهم لم يستأنوا بل تركوني وحدي، وأبحروا على عجل بعد إذ نمت على الشاطئ من الإعياء، وبعد إذ حملوا إلي هنا متاعي، وهم الآن في طريقهم إلى سيدونيا، وها أنا ذا وحدي هنا لا أعرف أيان أذهب ولا أين أمضي؟»
أوديسيوس يروي لبنلوب.
وسكت أوديسيوس، ولكن الراعي الشاب الجميل أخذ يتحول في فنون وسحر إلى صورة خلابة أخرى، لقد أصبح امرأة حسناء هيفاء، وها هي ذي، تلك المرأة الحسناء الهيفاء، تبدو في صورة مينرفا - ربة الحكمة - التي اقتربت من البطل في تبسم وظرف، وأخذت تعبث بلحيته الكثة الشعثاء في دلال وسخرية، وراحت بدورها تجيبه: «مرحى أوديسيوس، مرحى مرحى! ما أحسب أن أحدا - أحدا من الآلهة - يفوقك في مكرك وبراعة حيلتك يا ابن ليرتيس، أما أن تقلع عن مراوغاتك التي حذقتها مذ كنت يافعا وعن توشية الأحاديث الملفقة التي حذقتها واشتهرت بها في العالمين؟ ولكن تعال، ليدع كلانا ما يحاول أن يزوق به كلامه؛ فكلانا بارع في ذلك صناع؛ أنت بفصاحتك، ودقة فهمك وطريق حيلتك بين الناس، وأنا بحكمتي وقوة تدبيري بين الآلهة، وما أحسبك تجهل مينرفا ابنة جوف الأكبر، التي كانت رائدك ورفيقك في كل ما حاق بك من مكروه، فقد كنت أقذف الشجاعة في قلبك في مواقف شدتك، كما كنت أثير الحمية في أفئدة الفياشيين الذين وصلوا بك إلى هنا، وها أنا ذي طويت إليك فدافد الرحب لأخلو ساعة لك؛ ولأن لي حديث نصح معك، بودي أن أمحضك إياه، وقبل هذا ينبغي أن تخبئ كنوزك التي أسبغت عليك بمشورتي، ثم إني محدثتك عما يتحيفك من أرزاء، وما يدبر لك من كوارث تحت سقف بيتك، ونصيحتي أن تحتمل ما يصيبك أول الأمر بقلب جليد وصبر ثابت وطيد، واحذر أن يعلم أحد - رجلا كان أو امرأة - بوصولك إلى إيثاكا وحيدا شريدا لا حول لك كما وصلت، بل اصمت كلما حاول أحد أن يتعرفك، واحتمل الأذى كلما امتدت به يد إليك.» وقال أوديسيوس وقد أسقط في يده: «لله درك يا ربة! ما أبرعك في تغشية العيون وتضليل الأبصار والتشكل في أي صورة شئت! بيد أنك برغم ذلك حليمة رحيمة كعهدي بك دائما، ألا كم نصرت أبطال أخايا المذاويد، وأظفرتهم بأعدائهم في ميدان طروادة، ولكني لن أنسى مذ أقلع أسطولنا من مياه تلك المدينة بعد سقوطها في أيدينا أنك لم تظهري لنا قط، ولم تبادري مرة إلى إنقاذي من إحدى الرزايا التي كانت تحيق بي، والتي كنت أحتملها بقلب حديد وصبر شديد، حتى رثت الآلهة لحالي فجعلت لي منها مخرجا وأنقذتني إلى بر فياشيا، حيث أثرت في صدري النخوة وأوليتني الشجاعة، وكنت دائما دليلي ورائدي، ولكن اصدقيني بأبيك يا ابنة جوف، هل وصلت حقا إلى إيثاكا؟ أم أنا في صقع سحيق عنها، وإنما أنت تسخرين مني وتعبثين بي؟ اصدقيني بأبيك يا ربة، هل هذه بلادي العزيزة إيثاكا؟ هل هي حقا؟» وقالت ذات العينين الزبرجديتين تجيبه: «دائما حذر يا أوديسيوس، وإلى الأبد يملأ الوسواس صدرك برغم ما أوتيت من حكمة وتبيان ورجاحة فكر وسلامة جنان، بيد أنك معذور يا صاح، إذ أي رجل يتشوف لرؤية زوجه وأبنائه ولا يتحرق شوقا للقياهم بعد هذا النوى الطويل والبعد الممض والأهوال الجسام الجمة؟ غير أنه أفضل لك ألا تعلم شيئا ولا تسأل عن شيء حتى تلمس بنفسك مقدار ما تكنه لك من الحب، تلك الزوجة الوفية المخلصة التي ذهب شبابها عليك حسرات، والتي زرفت دموعها من أجلك آناء الليل وأطراف النهار طوال تلك السنين الباكية الحزينة الموحشة.
إني لم أتركك يا أوديسيوس كما تظن، بل كنت أعلم أنك راجع دون ما ريب إلى بلادك، وإن فقدت كل رجالك ورفاق سفرك الطويل الشاق، غير أنني أشفقت أن أثير حنق نبتيون - عمي وشقيق أبي - الذي يحز الأسى في قلبه من فعلتك التي فعلت بعين ابنه السيكلوب، ولكن هلم، إني سأقطع الشك باليقين، وسأدلك على علائم تؤكد لك أنك في إيثاكا؛ فهذه هي ميناء فورسيز حكيم البحار، وها هي الزيتونة الكبرى عند رأس المرفأ وعلى مقربة منها ذلك الكهف المقدس الإلهي الذي تأوي إليه عرائس البحر المعروفة باسم النياد، وقد طالما كنت تجزر القرابين والأضاحي باسمهن عند وصيده، وهاك جبل نيربتوس وهذه غاباته الشجراء.» ثم رفعت ربة الحكمة الغشاوة عن عينيه، فعرف دياره ولم ينكر شيئا منها، وهكذا شاءت العناية أن يشهد البطل المكدود بلاده الحبيبة مرة أخرى، وهكذا خر أوديسيوس جاثيا يقبل ثرى الأرض المقدسة، ثم رفع يديه يصلي لعرائس الماء كسابق دأبه: «يا عرائس البحر، يا بنات جوف الأعظم، لقد قنطت قبل هذا من أن أراكن، فها أنا ذا أعود إليكن بألف نذر وألف تحية وسلام، من القرابين الغوالي إذا مدت أختكن - مينرفا الحكيمة - في أيامي، وباركت رجولة ولدي ومعقد أحلامي.»
وقالت ابنة جوف تؤيده: «تشجع يا أوديسيوس، لا طائل لهذه الوساوس التي تعذبك. هلم! البدار البدار، لنخبئ هذه الكنوز في أغوار ذلك الكهف السحيق؛ لتكون في مأمن من عبث عابث، ثم هلم أدبر الأمر معك.» وانطلقت الربة في ظلمات الكهف تتكشفه بينما حمل أوديسيوس أذخاره فوضعها حيث أشارت مينرفا، ثم حملت بيديها الجبارتين صخرا عظيما فأحكمت به غلق المدخل الرهيب، وجلسا عند أصل زيتونة باسقة، وشرعا يرسمان الخطط ويحكمان التدبير لهلاك العشاق الفساق المعاميد، فقالت مينرفا: «أوديسيوس، يا ابن ليرتيس المجيد، هلم فأعمل فكرك الآن في الوسيلة التي تبيد بها أعداءك الذين لا يستحون، أولئك العشاق الذين استبدوا بأسرتك طوال أعوام ثلاثة واستباحوا حماك، وتكالبوا حول زوجتك كل هذه السنين يغرونها بالوعود، ويزخرفون لها الأماني، ويعسلون لها كلمة الفسق، وهي ما تزداد إليك إلا تحرقا، وما ترقأ دموعها من أجلك فتحتال لهم، وتعد هذا وتوشي المنى لذاك معللة نفسها بعودتك لتسحقهم جميعا.» واستعبر أوديسيوس قليلا وقال: «أوه! كأن القضاء الذي أسكت نأمة أجاممنون يكاد يحيق بي أنا الآخر في صميم داري! ولكن وي! أضرع إليك أيتها الربة أن تشيري علي وتنصحي لي وتلقنيني كيف أثأر من هؤلاء الطغاة؟ وأتوسل إليك أن تقذفي في قلبي الشجاعة كما قذفتها فيه تحت أسوار طروادة، فإني بعونك أدوخ المئين من أعدائي، وما دامت يدك فوق يدي فإني مستأصل شأفتهم جميعا.» قالت مينرفا: «اطمئن يا أوديسيوس فسأكون معك وإن لم يمتد إلي طرفك حتى تغتالهم أجمعين، وحتى تطيح رءوس أكثرهم على أرض قصرك، ولكن تعال ألق بالك إلي، إني سأغير من صورتك، وأحور من شكلك حتى لا يعرفك منهم أحد؛ فهاتان الوفرتان
6
صفحة غير معروفة