ورأيت ميرا، وكليمنيه، وأريفيل التاعسة التي قبلت أن تنال ثمن روح زوجها من الذهب.
والآن وقد أوشك الليل أن يلقي علينا طيلسانه، فما أحسبني أستطيع أن أحصي زوجات الأبطال العظام وبناتهم اللائي لقيت في هيدز، فأرجو لو أمر الملك فانطلقت لأستريح في سفينتي، أو هنا إن أذن، وكلي ثقة فيكم وإيمان بالآلهة أنكم ستدبرون أمر إبحاري إلى وطني حتى الصباح.»
وسكت أوديسيوس وصمت الجمع المحتشد في الردهة الملكية فكأن على رءوسهم الطير من روعة ما حدث، حتى نهضت أريتا الملكة ذات الذراعين العاجيتين، فقالت: «أيها الفياشيون، كيف أنتم وهذا المهاجر النبيل الذي زادته الآلهة بسطة في العقل والجسم، وأضفت عليه هذا البهاء وذاك الرواء؟ إنه ضيفي، بيد أنكم تشركونني في ضيافته والاحتفاء به، فخليق بكم ألا تسرحوه على عجل كما يجب، بل حري بكم أن تسبقوه أياما حتى تخلعوا عليه، وتقدموا له أطرف الهدايا وأعز اللهى، وتفيئوا عليه مما حبتكم السماء، فكلكم غني جم الغناء، ثري واسع الثراء.» وتكلم البطل أخنيوس أكبر أمراء فياشيا وأتلدهم ذكرا فقال: «إن مليكتكم ذات المجد والكبرياء يا أصدقاء لا تبدي رغبة فحسب، بل هي تصدر عن إرادة عالية وأمر سني، فحبذا لو أصختم وصدعتم ... على أن كل شيء هو رهين بمشيئة الملك فلير إذن رأيه.» وقال الملك: «إني أوافق على ما رأت الملكة زهرة فياشيا وسيدة البحار، ليبق الضيف إلى غد إذن برغم ما يحدوه من الشوق إلى بلاده، حتى أسبغ عليه وأدبر أمر عودته التي يعنى بها الجميع.» وكأنما صادف مقال الملك هوى في فؤاد أوديسيوس فنهض وقال: «ألكينوس، يا ملك فياشيا العظيم، بودي لو بقيت هنا عاما بأكمله؛ ليتم الملك نعمته علي، وليدبر أمر عودتي سالما إلى أرض الوطن، فما أجمل أن أعود بالعطايا والهدايا والنعم؛ لأملأ عيون مواطني، ولأكسب احترامهم وأنال محبتهم بعد طول النأي وفدح البعاد!»
فأجابه الملك: «لله ما أروع ما حدثت يا أوديسيوس! وكأنما حدثت بلسان ساحر عليهم يبهرج القصص ويوشي الأخبار ويروق ويزوق في زكانة وفطانة وحذق وترتيب! أبدا ما تساكبت الموسيقى والنغم الحلو من لسان كلسانك الذرب الحبيب، ولكن ماذا عندك من أخبار الأبطال الإغريق الصيد الصناديد الذادة المذاويد؟ حدث يا أوديسيوس قل، قص علينا أخبارهم، أرأيت أحدا ممن شهد معك وقائع طروادة؟ إن الليل لا يزال في عنفوان يا صاح، وما بأعيننا من سنة فنأوي إلى فراشنا في مثل تلك الساعة، هلم فحدثنا؛ فبنا من حديثك شغف، وكلنا إليه شوق، ولو حدثت حتى مطلع الفجر إن لم ينل منك وصب أو يعيك ملال.»
وقال أوديسيوس: «بورك سيد فياشيا الملك ألكينوس لا يزال في الوقت متسع للحديث وللنوم معا، وإن شئت حدثتك طائفة من الأحاديث عن أبطال الإغريق، سواء منهم من ثوى تحت أسوار طروادة ومن أفلت من الموت ثمة فترصدته المنايا في أرض وطنه صببا من كف زوجه الأثيم الزنيم! إليك إذن، وحينما هتفت برسفونيه - ربة هيدز - بأشباح العذارى وأرواح الحسان، فتكبكبن وانثنين عني إلى ظلمات دار الفناء، بدا لي طيف أجاممنون - ابن أتريوس - ومن حوله كوكبة من أشباح الذين قتلوا معه في داره بيد إيجستوس، أهرع إلى الدماء فرشف منها رشفات ثم نهض فعرفني، وكأنما شاعت فيه رعدة من الدهشة والذعر، وتحدرت دموعه الحرار السخينة فوق خديه، ثم مد إلي ذراعيه يود لو عانقني، ولكن، وا أسفاه وهل يعانق الشبح إنسيا؟ ونال مني الحزن فبكيت من هذا المنظر الفادح الأليم، وبدأت أكلمه في أسلوب بائس وعبارة باكية: «ويحك يا ابن أتريوس يا ملك الدنيا العظيم! ماذا جرعك كأس المنايا؟ خبرني هل جرعتها في قرار اليم مغرقا بيد نبتيون، أم فوق ظهر الأرض حين كنت تسوق قطعانك، أم قتلت وأنت تحارب من أجل بنات أخايا إذ هن محاصرات خلف أسوار مدينتهن؟» فقال يجيبني: «أوديسيوس الزعيم النبيل، يا ابن ليرتس الحكيم، أبدا ما مت مغرقا بيد نبتيون، ولا فوق ظهر الأرض في حومة حرب زبون، بل ذبحني اللئيم إيجستوتس بعد أن دبر غيلتي مع زوجتي الآثمة، حين ملق
10
لي وبالغ جهده في الاحتفال بي، ثم ذبحني كما يذبح الثور في مذودة، وكر على رجالي فذبحهم كما تذبح الخنازير لوليمة في عرس أو في حفل لزعيم عظيم، أوه أوديسيوس لا جرم أنك قد شهدت ألف معركة ومعركة جندلت فيها أبطالا وراء أبطال، بيد أنها جميعا لم تك شيئا في ذلك الحديث الرهيب، لقد هوينا نتخبط في دمائنا التي ضرجت الأرض تحت أخاوين
11
حافلة بأطيب الآكال وأشهى الأشربات، ثم جلجلت في أذني الصرخة الرهيبة، صرخة ابنة بريام، فكانت ما أروع وما أفدح! لقد انبطحت على الأرض إلى جانب كاسندار قتيلا بيد زوجتي كليتمنسترا، ومع ذلك لم أفقد الأمل يا صديقي، بل حاولت أن أمتشق جرازي، لكن الخائنة انسحبت كالأفعى ولم تعبأ بي، بل لم تشأ أن تغمض عيني أو تسند ذقني، في اللحظة التي أوشكت أن أطرق فيها أبواب هيدز، ويلاه وويلي على المرأة التي طاوعتها يداها فأتت هذا المنكر، وارتكبت إثم قتل زوجها ورفيق صباها.
لقد حسبت حين عدت أدراجي أنني سأقابل بالأهل والسهل من أبنائي وأهلي وحاشيتي، ولكنها، الفاجرة الغادرة ، التي بزت بفجورها كل صنوف الفجور، قد سحبت على نفسها أذيال العار والخزي، بل هي قد سحبت أذيال العار والخزي على كل أنثى لم تر النور بعد، وعلى كل الصالحات الطيبات من بنات جنسها.»
صفحة غير معروفة