ولم يكن له من بسطة العيش ما يقيه الحاجة فيصون ماء وجهه، فكان أصحاب المجون إذا أرادوا الخروج إلى نزهة استأجروه بدينار، فيحمل لهم أدواتهم، ويبقى معهم حتى يعودوا.
وكأن الأقدار أبت إلا أن تذيقه كأس الأدناس حتى الثمالة، فأرسلت إليه والبة بن الحباب الأسدي الشاعر الكوفي الخليع، فلقيه عند العطار يبري العود، فافتتن به وأعجبه ذكاؤه وأدبه، فحمله إلى الكوفة، وعني بتخريجه في الشعر؛ فأدبه بأدبه، وخلقه بأخلاقه، وعرفه بأصحابه المجان؛ فأصبح لا يطيب له إلا الاجتماع بهم، وفيهم أمثال مطيع بن إياس، وحماد عجرد، ويحيى بن زياد، وحسبك بهم من عصابة سوء.
ولم يشأ أبو نواس أن يعرف بالشعر قبل أن يخالط العرب الخلص ويأخذ عنهم الغريب، ويستوي لسانه على الكلام الفصيح شأن كل شاعر يريد أن ينبه في ذاك العصر؛ فسأل أستاذه والبة أن يسمح له بالخروج إلى البادية مع وفد بني أسد، فأخرجه مع قوم منهم، فأقام في البادية سنة ثم قدم الكوفة، فلبث فيها مدة قليلة ثم فارق والبة ورجع إلى البصرة، فاختلف إلى كبار أئمتها، فأخذ عنهم شيئا كثيرا ثم شخص إلى بغداد.
في بغداد
قدم أبو نواس بغداد وسنه أربت على الثلاثين، ومقاليد الخلافة في يدي هارون الرشيد؛ فأتيح له أن يتصل به، فقربه الرشيد وأحبه وأنعم عليه، وتغاضى عن فسقه وسكره واستهزائه بأحكام الدين، وعفا عنه مرارا وأطلقه من سجنه، على أنه لم يخصه بذاته، فلقد كان الرشيد شديد الحرص على وقار الخلافة، شديد الحفاظ على تقاليد الدين، ولا سيما أمام الرعية، فلم ير من الحكمة أن يجعل الشاعر الخليع مختصا بقصره، لذلك لم يحظ أبو نواس الحظوة التي كان يأملها عند الرشيد، فتفرغ لمصاحبة المجان، فكانوا يجتمعون على الصراة
56
أو في سوق الكرخ أو في روضة أو في منزل، فيتذاكرون الشعر ويشربون الخمر، ويستمتعون بأنواع الملذات التي ألفتها أذواقهم، فما يتركون محرما إلا اتفقوا على إتيانه غير متورعين ولا مستحيين، وأشهر أصدقائه الخلعاء في بغداد: داود بن رزين الواسطي، والحسين بن الضحاك الأشقر الخليع، والفضل الرقاشي، وعمرو الوراق، والحسين الخياط، وعنان جارية الناطفي، وإسماعيل القراطيسي، ورزين الكاتب أخو دعبل، وربما تولى أحدهم دعوة رفاقه فيهيئ لهم مجلسا في بيته أو في غير بيته، فيكونون في ضيافته، وقد تكون هذه الدعوات بأن يقول كل واحد منهم شعرا يصف به ما عنده من أسباب اللهو والملذات، فمن افتن فيها أكثر من غيره قبلوا دعوته وصاروا إليه، فهذه الحياة الماجنة المسرفة كانت تدفع شاعرنا إلى التبذير في نفقاته وهو مشهور بسخائه، فلم تكفه عطايا الرشيد على جزالتها، فكان يشكو ويتذمر حتى اضطر إلى أن يقصد مصر ويمدح الخصيب أميرها، ولولا حاجته لما ترك بغداد وما فيها من أصحاب وملاه وحانات.
في مصر
انتجع الشاعر مصر صفر اليدين متألما من كساد سوقه، وفي ذلك يقول:
إني لآمل يا خصيب على
صفحة غير معروفة