أدباء العرب في الأعصر العباسية

بطرس البستاني ت. 1300 هجري
162

أدباء العرب في الأعصر العباسية

تصانيف

ومهما يكن من شيء فإن الذي أدرك على البحتري يكاد لا يذكر بالإضافة إلى غزارة شعره. (2-3) منزلته

نسب إلى أبي العلاء المعري أنه قال: «أبو تمام والمتنبي حكيمان وإنما الشاعر البحتري.» ومنهم من يضيف هذا القول إلى المتنبي نفسه فيزعم أنه قال: «أنا وأبو تمام حكيمان وإنما الشاعر البحتري.» وكلا الأمرين عندنا مشكوك فيه؛ لأنه إما مخالف لعقيدة أبي العلاء في شاعرية أبي الطيب وقد كان يسميه وحده الشاعر ويسمي غيره من الشعراء باسمه كما قال ابن الأثير، وإما مخالف لعقيدة أبي الطيب وإيمانه القوي بشعره. على أن البحتري أصح من أبي تمام طبعا، وأقل تكلفا، وأوضح الثلاثة ديباجة، وأكثرهم انسجاما، وأسلمهم من الغموض والتعقيد؛ ذلك بأن نشأته البدوية جعلته لا يحتفل بالمعاني الفلسفية والأدلة العقلية، ولا يتورط في التزام البديع؛ لأنه يخالف أذواق أهل البادية المطبوعين على الشعر. ولا يسرف في طلب الغريب؛ لأن معرفته ليست فضيلة عند البدو كما هي فضيلة عند الحضر. فكل بدوي يعرف الغريب، ولا يعرفه كل حضري؛ لذلك كان البحتري يحذفه وينفيه عن شعره ليقربه من أفهام ممدوحيه إلا أن يأتيه طبعه باللفظة بعد اللفظة في موضعها من غير طلب لها، فأوتي ديباجة رائقة، قلما ظفر شاعر بمثلها حتى ضرب المثل بها فقيل ديباجة بحترية، وشبه شعره لأجلها بسلاسل الذهب؛ لتناسقه، وتماسكه، ورونقه، وحسن انسجامه. واتخذ طرازا أعلى للطريقة الشامية التي شغف بها الصاحب بن عباد، وحث الناس على رواية أشعار أصحابها. وكأنما شعره وضع للغناء؛ لما فيه من إيقاع وترجيع، ومزاوجة ألفاظ ومطابقتها، ثم لما فيه من الطراوة والرقة، والبعد من التداخل، على خفة في المعنى وقرب متناوله.

وكان إذا تشبه بأستاذه فطلب المجاز والبديع يحسن اختيار الألفاظ وتأليفها، ويجعل استعاراته وتمثيلاته، وجناساته ومطابقاته، نازلة في منازلها، لا تستخدم المعنى، وإنما تزيده تصويرا ورونقا. وكأن وصية أبي تمام له أثرت فيه أحسن تأثير فاهتدى بهديها، فأنقذ شعره من الشوائب التي علقت بشعر أستاذه ، فإذا هو كما أوصاه: «يتقاضى المعاني، ويحذر المجهول منها، ولا يشين شعره بالألفاظ الزرية.» وشهد له أبو تمام فقال: «أنت أمير الشعراء بعدي.»

ويرى طائفة من أهل الأدب أنه لم يأت بعد أبي نواس من هو أشعر من البحتري، ولا بعد البحتري من هو أطبع منه على الشعر. وذكر الآمدي في موازنته أن أبا عبادة قد أسقط في أيامه أكثر من خمسمائة شاعر وذهب بخبرهم، وانفرد بأخذ جوائز الخلفاء دونهم.

وإذا صح أن إنشاء الأديب صورة لنفسه ، فشعر البحتري بما فيه من ديباجة رائعة، وخيال جميل، وغزل لطيف، يجعلنا نشك في ما يزعمه بعض الرواة من أنه كان وسخا بغيضا، فأناقة عباراته لا تدل على قذارة آلته، ورقة ألفاظه ولطف معانيه لا يلائم غلاظة طباعه.

وما أدراك أن أولئك الذين شنعوا عليه كانوا من خصومه، فأرادوا إسقاطه ليفضلوا صاحبهم أبا تمام، ونحن نرى غيرهم من الرواة لا يصفونه بمثل هذه الأوصاف، بل ينعتونه بحسن الخلال. ومهما يكن الأمر فشعر البحتري يجعل صاحبه محببا إلى النفوس، ولا يرسم لنا تلك الصور الممقوتة التي يرينا إياها بعض الرواة.

والخلاصة أن البحتري يتحلى بجمال الديباجة، وبراعة الوصف والتصوير، ولا سيما وصف الطبيعة ومظاهر العمران، يسمو به خيال لطيف، يسبح في سماء صافية الأديم، معطرة الأرجاء، عليلة النسيم. وهو زعيم الطريقة الشامية، وفي طليعة من قال مدحا في خلافة العباسيين، ومنزلته في الطبقة الأولى بين الشعراء المولدين. (3) ابن الرومي 835-896م/221-283ه (؟) (3-1) حياته

أبى المؤرخون الأوائل أن يتركوا لنا ترجمة وافية لابن الرومي، فلم يدونوا إلا أخبارا متقطعة الأوصال ليس فيها غناء كبير للباحث في الآداب، فهم يعلموننا أن اسمه علي بن العباس بن جريج أو جورجيس. وأن لقبه ابن الرومي، وكنيته أبو الحسن. وأنه مولى لعبيد الله بن عيسى بن جعفر بن المنصور أحد الأمراء العباسيين، وأنه ولد في بغداد وبها نشأ. وهنا تنقطع سلسلة أخباره فما تجد منها غير نتف لا لحمة بينها ولا سدى. حتى إذا بلغنا خبر موته علمنا أنه مات مسموما سمه القاسم بن عبيد الله الوهبي وزير المعتضد. وكان هذا الوزير ظلاما عاتيا، فخاف أن يهجوه الشاعر لما عرف من فلتات لسانه، فدس عليه من أطعمه خشكنانجة

30

مسمومة فمات بها. وكانت وفاته في بغداد ودفن في مقبرة البستان.

صفحة غير معروفة