أدباء العرب في الأعصر العباسية

بطرس البستاني ت. 1300 هجري
155

أدباء العرب في الأعصر العباسية

تصانيف

على أن البحتري لم يقصر حبه على علوة بل أحب أشخاصا آخرين، احتلوا فؤاده، واشتركت عاطفته فيما بينهم، فذكرهم في شعره وشبب بهم جميعا.

وكأن صاحبنا لم يسعد طالعه بمن يهواهم ، فابتلي بالافتراق عنهم، فكان يتشوق إليهم، ويتلهف على أيام لقائهم، فإذا لجت به الذكريات، وتغلبت عليه الأشواق، تمثلت له أخيلتهم في المنام، فإذا هب من نومه، وكذبت اليقظة الحلم، تضاعف التياعه وازداد وجده، فراح يشبب بطيف الحبيب، ويأسى على فراقه، كأن الحلم حقيقة. ولما كثر ذلك منه طارت له شهرة في وصف طيف الخيال.

وغزل البحتري في أكثره لطيف ناعم، يزدان بحسن الوصف، وفيه ما يستأسر القلوب، ويثير العواطف في النفوس.

رثاؤه

كاد البحتري يحصر رثاءه في نسيب يعز عليه فقده، أو صديق يشجوه بعده؛ فقد رثى المتوكل وكان أحب الخلفاء إليه، ورثى أبا سعيد وابنه يوسف وآل حميد وجميعهم من أنسبائه، ورثى غلامه قيصر وكان يحبه، وجارية له وكان يهواها؛ لذلك جاء رثاؤه على قلته عاطفيا صادق التفجع.

على أنه لم يرث الفتح بن خاقان مع حبه له وحزنه على موته، فقد ثاب إليه رشده بعد رثائه المتوكل، فشعر بالخطر المحدق به فلم يجرؤ على رثاء الفتح؛ لأن المنتصر ادعى، بعدما بويع بالخلافة، أن الفتح قتل المتوكل، وأنه قتل الفتح ثأرا لأبيه.

وليس للبحتري غير مرثاة واحدة في المتوكل، ولكنه ظل يذكره ويذكر الفتح في سوانح شعره، ويتلهف على أيامهما. ولم يرث خليفة غيره، مع أنه شهد مقتل جماعة منهم كان متصلا بهم يمدحهم؛ ذلك بأنه لم يخلص الحب لخليفة بعد المتوكل ولم يشأ أن يستهدف لغضب الموالي وولاة العهد، وهو يعلم أن أكثر الخلفاء الذين ماتوا في زمنه قتلوا إما بسيوف الأتراك، وإما بمكيدة يشترك فيها ولي العهد.

وأكثر مراثي البحتري يتخللها المدح، ولا سيما ما جاء في رثاء الأمراء الذين يفيد منهم، فإنه يبكي الميت ويتفجع عليه، ثم يفرغ إلى تعزية ولده أو بعض أهله فيمعن في مدحهم، فكأنه يوطئ من رثائه سبيلا للاتصال بهم؛ فقد رثى نسيبه أبا سعيد رثاء صادقا لا شك فيه، ولكنه مدح في القصيدة نفسها ولده يوسف؛ ورثى وصيفا القائد التركي، ومدح في المرثاة ولده صالحا؛ وتجد له مديحا في محمد بن عبد الله بن طاهر أدمجه في رثائه لأخيه طاهر وعمه الحسين.

ويستهل مراثيه على الغالب بتعظيم الخطب وإكباره، وذم الدهر والتوجع من صروفه ونوائبه. ومما يؤخذ عليه في رثاء النساء أن المرأة مضعوفة عنده، فهو يرى فيها رأي الفرزدق زاعما أنها أهون ميت على الرجل، وأن البكاء عليها عيب وغضاضة. ولعله يتكلم بلسان عصره، فإن المرأة كانت يومئذ ذليلة الجانب، محتقرة المكان، فمن ذلك قوله يعزي نسيبه أبا نهشل الطوسي عن ابنة افترطها:

ولعمري ما العجز عندي إلا

صفحة غير معروفة