وغالبا ما تدرس العلوم الإسلامية في التراث ولا تتجاوز مرحلة الخلق الأولى، وإن تعديناها فعلى أكثر تقدير تذهب حتى عصر الشروح والملخصات وننسى كلية الحركات التجديدية المعاصرة التي حاولت من قبل إعادة بناء العلوم التقليدية في صورة جزئية لأنها كانت دعوات إصلاحية أكثر منها دعوة للبحث الخالص، فهناك محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين في «رسالة التوحيد» وهناك محاولة أخرى لإعادة بناء الفكر الفلسفي في «الرد على الدهريين»، وهناك محاولات أخرى عديدة لإعادة بناء علوم التصوف والفقه والأصول، هذه الحركات التجديدية جزء من التراث، ومحاولات سابقة لتجديده يجب أن تؤخذ في الاعتبار بالرغم من قصر مدتها أو تناولها بعض أجزاء هذه العلوم دون أن تتناولها في جملتها.
فإذا أخذنا علم الكلام مثلا فإن دراستنا له يمكن أن تتم بمنهج فقهي، أي أنها تكون دراسة تحلله من أجل الحكم عليه كما فعل الفقهاء من قبل، ولكن التحليل هنا لا يعني اللجوء إلى النص الخام أو تكفير المتكلمين بل بيان نشأة الأفكار ثم أثرها في حياتنا المعاصرة، وهجومنا على علم الكلام القديم ليس بدعة في تاريخ هذا العلم فهو أكثر العلوم تعرضا للهجوم نظرا لقدم مادته وعدم توازن حلوله، وخطورة نتائجه، ووعورة مناهجه وحججه، ولكن هجومنا عليه ليس بتكفير أصحابه أو بمجرد نقد أفكارهم، بل ببيان نشأته وحدوده وعيوب مناهجه، وخطورة نتائجه، أي بإعادة وصف نشأة هذا العلم وتطوره ابتداء من أصوله الأولى في الوحي، أي أننا نعيده إلى محكمة التاريخ، والظروف التي أدت إلى نشأة علم الكلام التقليدي هي ظروف مستجدة في كل عصر، ففي كل عصر تبدو الحاجة إلى تنظير الواقع وإلى إيجاد أسس نظرية للأحداث من مصدر نظري متوارث أو من العقل المحض أو بناء على متطلبات الواقع، وهذا هو السبب الداخلي، وفي كل عصر تهاجم الحضارة من حضارات مجاورة، ويراد القضاء عليها أو على الأقل يراد بها التشويش والخلط فتنشأ حركات داخلية للدفاع عن الحضارة وللقيام بعمل هجوم مضاد على الأفكار الدخيلة، وما زال الهجوم قائما على التوحيد وعلى العقائد وعلى النظم، بل إن الهجوم قد زاد وتجاوز الفكر إلى الأرض والشعوب والثروات، فيمكن إذن أن يبقى على علم الكلام مع تجديد مادته كدفاع عن الحضارة وتأصيل لها وكهجوم مضاد على الحضارات الغازية، وفي نفس الوقت يكون مقدمة الدفاع عن الأرض والشعوب والثروات، وهذا هو السبب الخارجي.
2
وبالرغم مما يبدو على الموضوعات الكلامية من طابع تقليدي إلا أن هذا الطابع يظهر في طريقة عرضها أو في المادة القديمة وليس في الموضوعات ذاتها، فطريقة العرض القديمة تجعل الله طرفا في كل مشكلة، ويكون مع الإنسان الله المشخص المريد، الفاعل، العاقل، القادر ... إلخ، ولكن التوحيد ذاته موضوع مستقل بذاته، فالتوحيد يعني وحدة البشرية ووحدة التاريخ، ووحدة الحقيقة، ووحدة الإنسان، ووحدة الجماعة، ووحدة الأسرة ... إلخ، والحرية موضوع كل عصر، ولكن تتغير أطراف الحرية مرة تتحدد الحرية بالنسبة للسلطة ومرة ثانية بالنسبة للآخر ومرة ثالثة بالنسبة للعقبات، والعقل مشكلة كل عصر إذ تتهدده الخرافات، والأساطير، والغيبيات، والأسرار، والأوهام، والانفعالات، والأهواء، والمصالح، والرغبات، والميول، والعمل موضوع كل عصر، فالعمل هو المعبر عن النظر وهو المحقق له، والسياسة هي حياة كل عصر، والشورى نظام كل جماعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوام الحياة السياسية، إنما المهم هو إيجاد الدلالة المعاصرة للموضوع القديم وتخليصه من شوائبه اللاهوتية والتاريخية والنظرية، وإعادة وضع المشكلة الوضع الصحيح، وهو الوضع الإنساني الاجتماعي، وتكون مهمتنا مثلا في إعادة بناء علم الكلام التقليدي وهو التركيز على التوحيد كعملية توحيدية، وعلى الحرية كعملية تحرر، وعلى العقل كعملية تنوير، وعلى العمل كعملية تحقيق وتغيير شامل، وعلى الشورى لتغيير النظم التسلطية، وعلى الطبيعة من أجل إدخال بعدها في الشعور المعاصر وعدم الاستنكاف منها بناء على عواطف التطهر والتطهير، قد تكون مهمتنا أيضا إحياء التراث الاعتزالي الذي توقف منذ القرن الخامس، ولم يظهر إلا في بؤرات متفرقة لم تستطع أن تعيد ما توقف إلى حياة الناس وإلى الروح المعاصرة. (1) العلوم الإسلامية الأربعة
نشأ التراث من مركز واحد وهو القرآن والسنة، ولا يعني هذان المصدران أي تقديس لهما أو للتراث بل هو مجرد وصف لواقع، فلو لم يكن هناك قرآن لما قام التراث القديم ولما نشأت الحضارة الإسلامية؛ لذلك يمكننا التفرقة بين نوعين من الحضارات: حضارة مركزية تدور حول مركز واحد هو في الغالب كتاب مقدس سواء كان وحيا أو تاريخا، وتنشأ حوله، وتستمد وجودها منه، وتنسج علومها العقلية عليه، وتتطور في حلقات حوله، متداخلة فيما بينها على مر العصور، وحضارة أخرى لا مركزية ولم تنشأ حول نقطة محورية، ولم تصدر علومها عنه، تذهب في كل اتجاه، وتجرب كل مذهب، لا يجمعها جامع، وتظل مذبذبة بين الاتجاهات والمذاهب فاقدة عنصر التوازن فيها، وباحثة عن شيء لا تعلمه أين هو، ويظل البحث الإنساني مستمرا، يتغير بتغير العصور والأزمان، وأصبح البحث عن الشيء أهم من الشيء نفسه؛ لذلك قويت فيها المناهج وكثرت فيها مذاهب النقد والشك، وتعددت فيها الاتجاهات كي تغطي هذا النقص المحوري في نشأتها، ولكن الغالب أن كل الحضارات المعروفة حتى الآن حضارات مركزية نشأت من مركز واحد هو الدين، سواء كان ذلك في الأساطير اليونانية بالنسبة للحضارة اليونانية أو في الإنجيل بالنسبة للحضارة الأوروبية أو في التوراة بالنسبة للتراث اليهودي أو في كتاب الموتى والأساطير المصرية بالنسبة للحضارة المصرية القديمة، أو في قوانين حمورابي بالنسبة للحضارات السامية القديمة، أو في وصايا كونفوشيوس بالنسبة للحضارة الصينية القديمة أو في الفيدانتا بالنسبة للحضارة الهندية، أو في القرآن والسنة بالنسبة للحضارة الإسلامية.
نشأت الحضارة الإسلامية إذن حول الكتاب والسنة، ونسجت حولها العلوم الإسلامية العقلية الأربعة: الكلام والفلسفة والتصوف والأصول، وبصرف النظر عن ترتيب ظهورها زمنيا، فقد ظهر الكلام والتصوف معاصرين للفتنة بعد ظهور أصول الفقه معاصرا لزمن الرسالة، ثم ظهرت الفلسفة أخيرا بعد عصر الترجمة في أواخر القرن الثاني، إلا أنه من الناحية الفكرية الخالصة نشأت العلوم التقليدية الأربعة كالآتي: (1)
كان علم الكلام أول عمل عقلي في النص الديني، فقد كانت مهمة المتكلم تحويل النص إلى معنى، والآية إلى فكرة، فكان الكلام أول محاولة للعثور على نظرية عقلية خالصة للنص الديني، وقد تم تحويل ذلك بجهد داخلي خالص دون أدنى اتصال على الأقل في نشأة العلم، بحضارات أخرى، إذ تم ذلك قبل عصر الترجمة بكثير، ولم يكن هناك واقع محدد لذلك، مثل الرد على الزنادقة والملاحدة بل كان العلم حركة طبيعية في تجاوز النص الديني إلى المعنى العقلي لا سيما وأن النص بطبيعته يرتكز على العقل ويقوم عليه، فالعقل كما ظهر فيما بعد هو أساس النقل، كان علماء الكلام أشبه بوزراء الداخلية في العصر الحاضر، مهمتهم المحافظة على الأمن العقلي الداخلي والمحافظة على النظام الداخلي للحضارة الناشئة، وكان علم الكلام أشبه بالدائرة الفكرية الأولى التي نسجت حول النص الديني، وأخذ طابعا نظريا خالصا؛ لذلك حكم عليه البعض بأنه يمثل الفكر الأصيل الذي يعبر عن جهد الجماعة الأولى دون أية مؤثرات خارجية،
3
ولما تطورت الحضارة، وتمثلت الأديان المنتشرة على الواقع الثقافي، اتجه العلم للدفاع عن التصور الجديد للعالم والرد على الديانات التاريخية، ومن ثم تحول العلم إلى تاريخ أديان في جزء كبير منه، وكان الرد على الفرق غير الإسلامية إحدى مقدماته وأحيانا في صلبه في عرض وصف الواحد من أوصاف الذات الست، ولكن الرد لم يكن على بيئة خارجية بل على أفكار ومذاهب وملل ونحل انتشرت في البيئة المحلية، وذاعت على الصعيد الثقافي، فكان العلم يعمل أيضا في الجهة الداخلية،
4
صفحة غير معروفة