9
وفي أصول الدين نجد أن لفظي «ثواب وعقاب» لفظان سلبيان لأنهما قائمان على الجزاء والعقاب، فالثواب هو نتيجة إيجابية للفعل والعقاب نتيجة سلبية له، فخلود الفكر أو الفنان أو الشهيد عن طريق عمله هو ثوابه، وفناء الإنسان العادي ونسيان الآخرين له وكأنه لم يوجد هو عقابه؛ ولذلك يحتاج هذا المعنى إلى لفظ جديد يعبر عنه دون لفظي ثواب وعقاب، وكذلك لفظا «الدنيا والآخرة» لفظان سلبيان خاصة اللفظ الثاني لأنه لا يعبر عن شيء محسوس يمكن التحقق منه في الحياة العملية، فالدنيا هي الوجود الزماني للفرد والآخرة هي الوجود كحضور في شعور الآخرين، ومن ثم يحتاج هذا المعنى إلى لفظين آخرين غير اللفظين التقليديين. (3)
من الشيء المشار إليه إلى لفظ جديد: إذا كان الانتقال من لفظ تقليدي إلى لفظ جديد سببه هو النقص النسبي في اللفظ التقليدي في قدرته على التعبير عن المعنى وإيصال الشيء المراد، وإذا كان الانتقال من المعنى الضمني إلى اللفظ الجديد سببه هو النقص الكامل للفظ التقليدي في التعبير عن المعنى والإشارة إلى الموضوع، فإن هذا الطريق الثالث هو الانتقال من الشيء المشار إليه لفظ جديد يبدأ من الشيء نفسه، ثم يعبر عنه بلفظ تلقائي، وأنه من التجاوز أن يسمى هذا اللفظ جديدا؛ لأن ليس له مقابل تقليدي يعادله أو يوازيه، بل نشأ نشأة تلقائية للتعبير عن الموضوع والإشارة إليه، فمثلا ألفاظ مثل «صورة» و«مضمون» و«موضوعية»، ألفاظ جديدة يمكن بواسطتها التعبير عن الهيكل العام لعلم أصول الفقه، فمثلا في دراسة «الأخبار» أي في تحليل منطق التاريخ، تدرس مناهج الرواية باعتبار أنها صور للشعور التاريخي، والمصادر الأربعة للشرع باعتبارها مضمونا له، وأخيرا شروط الرواية والراوي اعتبارها موضوعية له، وكذلك الحال في منطق اللغة، فإن الألفاظ تكون صورة للشعور العقلي، ومباحث العلة تكون مضمونا له، ثم شروط المفتي والمستفتي تكون موضوعيته، وفي دراسة الأحكام يكون الفعل صورة للشعور العملي والقصد يكون مضمونا له ثم تحقق الوعي كنظام مثالي للعالم يكون موضوعيته، وكذلك استعمال لفظ «منهج» للإشارة إلى موضوع التواتر والآحاد باعتبارها مناهج للنقل الشفاهي أو لفظ «قطب» للتعبير عن قطبي الشعور العملي الإيجابي والسلبي أو الواجب والحرام أو لفظ «مستوى» للإشارة إلى الأحكام الخمسة باعتبارها مستويات مختلفة للسلوك، أو بناء نظري للإشارة إلى الأسس العقلية التي يقوم عليها أي موضوع.
10
ويعبر لفظ «الإنسان الكامل» عن علم التوحيد وعلم التصوف معا، فمع أن علماء أصول الدين يتحدثون عن الله ذاته وصفاته وأفعاله، فإنهم في الحقيقة يتحدثون عن الإنسان الكامل، فكل ما وصفوه على أنه الله إن هو إلا إنسان مكبر إلى أقصى حدوده، وكذلك الصوفية عندما عبروا عن ذلك بأنفسهم ووصفوا الإنسان الكامل على أنه الإنسان المعتمد بالله،
11
وتأتي معظم هذه الألفاظ من اللغة العادية الشائعة تلقائيا بلا تكلف أو تعمد، وقد نشأ علم أصول الفقه نشأة تلقائية عندما استعمل الشافعي ألفاظ العام والخاص، ونشأ علم أصول الدين نشأة تلقائية بظهور ألفاظ التجسيم والتشبيه والتنزيه والجبر والأفعال، والعقل والنقل، والوعد والوعيد، والحسن والقبيح، والإيمان والعمل، والإمامة والشورى والتعيين. (1-4) مخاطر واشتباهات
ويثير منطق التجديد اللغوي عدة تحفظات لا في شرعيته بل في نتائجه؛ وذلك لأنه قد يتعرض إلى مخاطر حقيقية تجعله مجرد عبث وتلاعب بالألفاظ لا يغير شيئا، وأهم هذه المخاطر هي: (1)
التعالم والحذلقة بالمفاهيم الجديدة دون فهم لمضمونها ودون تحقيق لمصادرها ودون معرفة عما إذا كان يمكن استخدامها بدلا من اللفظ التقليدي المعيب أو للتعبير عن المعنى الكامن للفظ التقليدي أو للإشارة إلى الموضوع نفسه الغائب تماما في الألفاظ والمصطلحات التقليدية، فالمتعالم أو المتحذلق ليس باحثا ولا مجددا، بل مراهق فكري تستهويه بعض الألفاظ الجارية على الألسن، خاصة في أجهزة الإعلام والمترجمات ويستعملها مدعيا الثقافة الحديثة أو التجديد للقديم، ويوهم العلم الحديث بالجرأة على القديم وهو لا يعلم هذا ولا ذاك، ولكن يخفف من هذه الخطورة أن القائم بالتجديد هو عالم أمين لا يبغي حذلقة ولا يدعي علما، بل إنه ذو شعور صادق يحلل تجاربه المعاصرة التي يتحد فيها القديم والجديد معا ويعبر عنها باللغة المتداولة، لغة العصر، وتظهر الحذلقة أو التعالم إلا في غياب العمل الرصين الجاد. (2)
التعصب المذهبي الذي يؤدي إلى نوع من التعسف في عمليات التجديد اللغوي عن طريق اختيار نوع واحد من الألفاظ المغلقة للتعبير بها عن معنى واحد مما يشير إليه اللفظ التقليدي كي يطبع الفكر الجديد بطابع مذهبي خاص، وبذلك تفقد اللغة الجديدة مميزاتها الأساسية وهي أنها ألفاظ عامة وإنسانية مفتوحة، وتصبح ألفاظا خاصة بمذهب معين ومغلقة على فكر خاص وتصدق على ميدان معين، ويتم هذا عن نقص في الوعي بالقديم أو عن شك فيه أو عن إنكار له أو عن إيمان به على الإطلاق ، والباحث من هذا النوع يكون غير قادر على التراث والتجديد؛ لأنه لا يؤمن بالتراث ولا يقف منه موقفا محايدا خالصا على الأقل، بل ولا تتوافر فيه شروط الباحث أي باحث لأنه بدأ بأفكار مسبقة ومواقف مبتسرة وهي انتسابه إلى مذهب فكري معين، كما أنه لا يؤمن بالتجديد، فالتجديد بالنسبة له هو استعارة الجديد وهو مذهب الفكر الذي ينتسب إليه، والذي يخفف من هذا الخطر أن القائم بالتجديد لا ينتسب إلى مذهب فكري معين ولا عقيدة فلسفية خاصة بل هو الشعور المحايد يعي الأفكار كلها في وقت واحد دون ما تحيز أو ميل أو هوى، وهو شعور عام يستطيع أن يرى كل المذاهب الفكرية وقد انضوت تحت بناء فكري واحد كوجهات نظر متعددة لحقيقة واحدة أو كتفسيرات مختلفة لموضوع واحد، فحياد الشعور وشموله هما الضمان. (3)
صفحة غير معروفة