ولما كانت اللغة صورة الفكر فإن التجديد اللغوي ليس تغييرا لمضمون الفكر بل تجديد لصورته وهي اللغة، اللفظ ليس إلا حاملا للمعنى وموصلا له، ولكن المعنى مستقل عن اللفظ، وقد كان الإحساس في تراثنا القديم باستقلال المعاني عن الألفاظ إحساسا قويا، ولا يوجد متكلم أو فيلسوف أو فقيه أو صوفي إلا ونبه على أنه لا مشاحة في الألفاظ، وأن صلة المعنى باللفظ كصلة النفس بالبدن أي صلة تميز واستقلال.
2
ومع أن اللغة لا تمس مضمون الفكر إلا أن مجرد تجديد اللفظ وإعطاء فرصة للفكر كي يعبر عن نفسه بلفظ جديد يكشف عن مواطن في الفكر أخفاها اللفظ القديم. قد لا يكون المعنى المكتشف في الفكر موجودا بالفعل في الفكر القديم، بل قد يكون إسقاطا من الروح المعاصرة على اللفظ القديم؛ إذ لم تجده فيه أي قراءة جديدة لهذا اللفظ القديم، فلو حدث ذلك لكان أيضا شيئا طبيعيا، فاللغة كالحضارة متطورة، وبتطور الأفكار وتجددها تتطور الألفاظ وتتجدد. فالتجديد عن طريق اللغة ليس عملا شكليا بل هو عمل يمس المضمون في إعطائه أكبر قدر ممكن من القدرة على التعبير والكشف عن كل إمكانياته، والحقيقة أن اللغة تلعب دورا كبيرا في نشأة العلم وفي بنائه، بل إن مصطلحات العلوم هي التي تحدد بناءها؛ فألفاظ التواتر والآحاد، والعام والخاص، والأمر والنهي، والحلال والحرام هي التي حددت نشأة علم أصول الفقه، وهي ألفاظ عادية مستعارة من اللغة العادية وتعبر عن مضمون فكري وبناء نظري لعلم أصول الفقه. وكذلك ألفاظ الممكن والواجب والمستحيل أو الذات والصفات والأفعال، كلها ألفاظ مستعارة من اللغة تعبر عن مضمون آخر وبناء نظري آخر لعلم أصول الدين. وكل مصطلحات الصوفية؛ الحال والمقام ، الوجد والفقد، البعد والقرب، الغيبة والحضور، الصحو والسكر، الكشف والمشاهدة، الحلول والاتحاد كلها تعبر أيضا عن مضمون آخر وبناء وجداني آخر. والألفاظ المتعلقة بواجب الموجود، وممكن الوجود والمطلق والنسبي، والجزئي والكلي، والقديم والحادث، والجوهر والروض، والكيف والكم تحدد بناء نظريا آخر وهو الفلسفة. دور اللغة إذن في بناء العلم أو في إعادة بنائه دور أساسي وأولي، بل إنه يمكن القول بلا أدنى مبالغة إن العلم هو لغة وإن تأسيس العلم هو إنشاء اللغة. (1-1) قصور اللغة التقليدية
وتغير اللغة التقليدية لا يحدث حبا في التجديد أو تعالما من محدث، بل هو ضرورة لغوية وفكرية معا؛ وذلك لأن اللغة التقليدية تصل إلى مرحلة من تطور الحضارة لا تستطيع معها أن تؤدي وظيفتها في التعبير عن المراد أو في إيصاله إلى الآخرين، وذلك للفرق الزماني الشاسع بين اللغة التقليدية وبين الباحث الحديث والقارئ المعاصر، تبدو اللغة التقليدية وكأنها تسودها بعض العيوب التي تعوقها عن أداء وظيفتها في التعبير والإيصال، وهذه العيوب تظهر حاليا على أنها عيوب، مع أنها كانت قديما خصائص مميزة أدت دورها في التعبير والإيصال وأهمها: (1)
أنها لغة إلهية تدور الألفاظ فيها حول «الله»، ولو أنه يأخذ دلالات متعددة حسب كل علم فهو «الشارع» في علم أصول الفقه، وهو «الحكيم» في علم أصول الدين، وهو الموجود الأول في الفلسفة، وهو «الواحد» في التصوف، فلفظ «الله» يستعمله الجميع دون تحديد سابق لمعنى اللفظ إن كان له معنى مستقل أو لما يقصده المتكلم من استعماله له، بل إن لفظ «الله» يحتوي على تناقض داخلي في استعماله باعتباره مادة لغوية لتحديد المعاني أو التصورات، وباعتباره معنى مطلقا يراد التعبير عنه بلفظ محدود وذلك لأنه: (أ)
يعبر عن اقتضاء أو مطلب، ولا يعبر عن معنى معين أي أنه صرخة وجودية أكثر منه معنى يمكن التعبير عنه بلفظ من اللغة أو بتصور من العقل، هو رد فعل على حالة نفسية أو عن إحساس أكثر منه تعبيرا عن قصد أو إيصال لمعنى معين، فكل ما نعتقده ثم نعظمه تعويضا عن فقد، يكون في الحس الشعبي هو الله، وكل ما نصبو إليه ولا نستطيع تحقيقه فهو أيضا في الشعور الجماهيري هو الله، وكلما حصلنا على تجربة جمالية قلنا: الله! الله! وكلما حفت بنا المصائب دعونا الله، وكلما أردنا ضمانا ويقينا حلفنا الآخر بالله وحلفنا له أيضا بالله، فالله لفظة نعبر بها عن صرخات الألم وصيحات الفرح، أي أنه تعبير أدبي أكثر منه وصفا لواقع، وتعبير إنشائي أكثر منه وصفا خبريا، وما زالت الإنسانية كلها تحاول البحث عن معنى للفظ «الله»، وكلما أمضت في البحث ازدادت الآراء تشعبا وتضاربا، فكل عصر يضع من روحه في اللفظ، ويعطي من بنائه للمعنى، وتتغير المعاني والأبنية بتغير العصور والمجتمعات، فالله عند الجائع هو الرغيف، وعند المستعبد هو الحرية، وعند المظلوم هو العدل، وعند المحروم عاطفيا هو الحب وعند المكبوت هو الإشباع، أي أنه في معظم الحالات «صرخة المضطهدين»، والله في مجتمع يخرج من الخرافة هو العلم، وفي مجتمع آخر يخرج من التخلف هو التقدم، فإذا كان الله هو أعز ما لدينا وأغلى ما لدينا فهو الأرض، والتحرر، والتنمية، والعدل، وإذا كان الله هو ما يقيم أودنا وأساس وجودنا ويحفظنا فهو الخبز، والرزق، والقوت، والإرادة، والحرية، وإذا كان الله ما نلجأ إليه حين الضر، وما نستعيذ به من الشر، فهو القوة، والعتاد، والعدة، والاستعداد، كل إنسان وكل جماعة تسقط من احتياجاتها عليه، ويمكن التعرف على تاريخ احتياجات البشر بتتبع معاني لفظ «الله» على مختلف العصور.
3 (ب)
من المستحيل تعلق لفظ محدود بحروفه وتركيبه وتكوينه في الجملة ووضعه في الصياغة ودلالته على معنى معين من مؤلف معين لقارئ في عصر محدد ليدل على معنى مطلق غير محدود ولا يماثله أي تصور محسوس يند عن حدود اللغة والتركيب والصياغات ويشمل كل العصور والأوطان، وجود مطلق أزلي أبدي إلى آخر ما يقال دائما في تصور الله بعد سماع لفظ «الله»، من المستحيل منطقيا التعبير بالأكثر تحديدا عن الأقل تحديدا أو بالأقل وجودا على الأكثر وجودا، إنه ادعاء بشري ونقص في الأمانة أن يقول كاتب واحد إنه يعني بلفظ «الله» ما يريد إلا عن طريق التقريب، ولماذا استعملت الصور الذهنية إذن؟ ولماذا اختلفت من عصر إلى عصر، إذا كانت اللغة هي مجرد حامل للمعنى، والمعنى مستقل، فإنه يمكن التعبير عنه بأي لفظ آخر من أي عصر آخر ومن أي بيئة ثقافية أخرى، فلفظ «الله» لا يساوي معناه بأي حال، صحيح أن اللفظ ورد في الوحي ولكن الإشكال هو في فهم اللفظ في عصر معين لجماعة معينة من أجل الحصول على معنى حضاري للفظ، وما زال علماء أصول الدين يحاولون فهم مدلول اللفظ حتى الآن دون الوصول إلى مدلول واحد يتفق عليه الجميع، بل إن الوحي نفسه موجود في زمان ومكان معينين، وبالتالي فهو أيضا قد تحول في لحظة الإعلان إلى حضارة، أي إلى مفهوم بشري يختلف باختلاف البشر. (ج)
هناك استحالة في تحديد جامع مانع للفظ إذ إن التعريف بطبيعته قائم على التحديد، والمعنى المراد التعبير عنه والموجود المراد الإشارة إليه قائم على الإطلاق وليس على التحديد، والتحديد قائم على أساس قطع جزء من الواقع ثم تصويره والإشارة إليه عن طريق التصور، أما الإطلاق فلا يمكن تحديده على هذا النحو، ولما كان «الله» لا يمكن تصوره فكيف يمكن التعبير عنه بلغة قائمة على التصور؟ (د)
لما كان الوجود وجودا جزئيا خاصا يمكن الإشارة إليه والتحقق منه فإنه لا يمكن أن يكون مطابقا لوجود الله في التصور المقصود له كوجود عام، وإذا كان الله ليس وجودا ذهنيا فحسب، بل وجود واقعي أيضا فكيف يشار إليه وكيف يعبر عنه في اللغة؟ من الصعب إذن وجود ما صدق للفظ «الله» كما وضح أنه من الصعب وجود مفهوم له، ولا ينفع هنا أي دليل أنطولوجي لإثبات وجود الله لأن الانتقال من الذهن إلى الواقع هو خروج من القوة إلى الفعل يحتاج إلى تحقيق ونشاط وحركة وفاعلية لا يعطيها الدليل العقلي الذي لا يتجاوز مجرد الافتراض والتسليم جدلا، وكيف يوجد في الواقع من مجرد وجوده في الذهن، وهو في كلتا الحالتين وجود جزئي متعين؟ فالتصور محدود بالذهن لأن التصور ينال بالحد، والوجود متعين جزئي وهو على خلاف الافتراض. (ه)
صفحة غير معروفة