أن يقوم الباحث بعمل موضوعه من جديد باعتباره مفكرا أو فيلسوفا أو عالما، يحاول أن يبنيه من أساسه مستنيرا بالأصول ومستعينا بالمادة العلمية التي عرضها الباحث الأول، والتي نقدها الباحث الثاني، ولكن جهده يتركز أساسا على تكوين الموضوع وبنائه باعتباره مؤلفا كالمؤلفين السابقين، المطلوب من الباحث الدخول في المشكلة القديمة وإعادة وضعها كموقف التزم فيه بفكر التراث وأخذ موقفا منه، وبذلك يبدو الباحث متسقا مع نفسه، وممثلا لحضارته، يحاول الباحث المجدد أن يعيد بناء الموقف القديم بثقافة العصر، وسرعان ما يجد موقفا يحتمه عليه فهمه الجديد للوحي يستطيع بعد ذلك أن يقارن بين حلول التراث وأن يبني مواقفه من جديد؛ لأن الحدوس الفلسفية واحدة تتكرر في كل عصر وبكل لغة وفي كل ثقافة، وهي معادلة صعبة أن يجمع الباحث بين التاريخ والفكر فلا تهمنا الوقائع التاريخية بقدر ما يهمنا الفكر والتحليل النفسي للأفكار ومدى أثرها وفاعليتها في الجماهير عن طريق إعادة بناء الموضوع نفسه في الشعور وتجربته على الباحث - نفسه؛ وعلى هذا النحو يتم الخلاص من عيوب المنهج التاريخي.
16 (1-2) المنهج التحليلي
يقوم هذا المنهج على تفتيت الظاهرة الفكرية إلى مجموعة من العناصر يتم التأليف بينها في حزمة لا متجانسة من الوقائع أو العوامل التي أنشأتها، فالظاهرة الفكرية ظاهرة مركبة تركيبا صناعيا يمكن تحليلها إلى عناصرها الأولية حتى يتم توضيحها وفهمها، فإذا كان المنهج التاريخي يقوم باستبدال واقعة مادية بالظاهرة الفكرية، فإن المنهج التحليلي يقوم بعد ذلك بتفتيت هذه الواقعة الصناعية وردها إلى عناصرها الأولية أو الاجتماعية أو السياسية أو الدينية، وهكذا أصبح العنصر الديني مع أنه هو الدافع الأول لتكوين الظاهرة عنصرا مساعدا لبقية العناصر، ضامرا، متقوقعا على نفسه، يتدخل فيما لا يعنيه.
وهذا المنهج مخالف تماما لطبيعة الظاهرة الفكرية المدروسة التي تكونت أساسا من تحويل النص الموحى به إلى معنى، والمعنى إلى بناء نظري؛ ففكرة العوامل التي تحدد تكوين الظاهرة وتتحكم فيها وفكرة العناصر التي تتكون منها مادة الظاهرة لا يمكن أن تساعد على فهم الظاهرة الفكرية التي نشأت طبقا لمنهج في تفسير النصوص، أي طبقا لمنطق في فهم الوحي، وحسب منطق عقلي آخر حدد طبيعة البناء النظري للظاهرة الفكرية الناشئة من تحول الوحي إلى حضارة ليست ظاهرة مركبة تركيبا صناعيا من عناصر ووقائع مادية أنشأتها عوامل تاريخية، بل ظاهرة معنوية نشأت من تحول النص الديني في شعور المفكر إلى المعنى، فهي امتداد للنص الديني على مستوى الفكر.
والأمثلة كثيرة على ذلك؛ فعديد من الدراسات عن المسائل الجزئية في علم الكلام لا تعطي نظرة شاملة على أساس هذا العلم ولا تدرك جوهره، فيمكن دراسة عدة جوانب من التوحيد كالتأليه أو التجسيم أو التشبيه أو التنزيه مع إعطاء مئات من الآراء عن كل منها، ولكن ذلك كله لا يجعلنا ندرك ماهية التوحيد أو عملية التوحيد أو عمليات الشعور التي وراء النظريات الجزئية. كذلك عديد من الدراسات الجزئية عن عصر الترجمة وأسماء المترجمين وعناوين ترجماتهم لا تعطي كلا شاملا عن معنى الترجمة والدور الثقافي الذي قامت به في تمثيل الفكر الأجنبي وتمثله واحتوائه داخل لغة الحضارة الجديدة، ونشأة لغة جديدة للتعبير بها عن المعاني الواردة. ونظريات متفرقة من هذا الفيلسوف أو ذاك في علمه أو فلسفته أو طبه أو رياضياته لا تكشف عن حدس الفيلسوف ومنهجه وتصوره الذي يحاول به التعبير عن الوحي. وتحليلات متفرقة عن القيم الصوفية والأحوال والمقامات لا تكشف عن التصوف كقصد عام وموقف كلي من الحياة وتيار خاضع لظروف اجتماعية ينشأ بوجودها ويختفي بعدمها. وتحليلات جزئية لمناهج الرواية لا تكشف عن المناهج العامة للنقد التاريخي التي وضعها علماء الحديث والأصول، وتفريعات متناثرة عن اللغة لا تكشف عن منطق اللغة والصلة بين اللفظ والمعنى والشيء، وتقسيمات لا تنتهي لأنواع العلل لا تكشف عن الصلة بين الوحي والواقع أو بين النص والعالم، ونظريات متناثرة عن العلوم العقلية الإسلامية لا تكشف عن بناء عام للحضارة الإسلامية وتطورها، تظهر فيه الحضارة كوحدة عضوية واحدة.
وقد نشأ تفتيت الظواهر إلى عناصرها الأولية من عقلية الباحث الغربي ومزاجه وثقافته وبيئته وطبيعة الدين الذي نشأ فيه وطريقة تحوله إلى حضارة عن طريق الرفض وردود الفعل؛ فطبقا للمسيحية التي يعتنقها عديد من المستشرقين يمكن تقسيم الظاهرة إلى عوامل دينية وأخرى غير دينية؛ لأن الدين لا ينظم إلا جانبا خاصا من جوانب الحياة وهو الجانب الروحي، وما سوى ذلك فهو الجانب المادي لا شأن للدين به. هناك إذن عامل ديني وعامل غير ديني يشمل العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فإذا نظر المستشرق إلى نشأة الفرق الإسلامية فإنه يحكم بأن هذه النشأة سياسية وليست دينية، في حين أن الوحي الإسلامي بطبيعته لا يفرق بين الدين والواقع، والعامل السياسي عامل ديني، والعامل الديني عامل سياسي واقتصادي واجتماعي ... إلخ. وعندما رفضت العصور الحديثة في الغرب كل الموروث القديم عن طريق رد فعل هائل ضد السلطة الموروثة، ظهرت الأفكار الجديدة من خلال ظروفها الاجتماعية وبيئتها الثقافية؛ فمنها ما نشأ نشأة سياسية، ومنها ما نشأ نشأة اجتماعية، ومنها ما نشأ نشأة اقتصادية. وهكذا يمكن تفسير نشأة الأفكار وتطورها منذ عصر النهضة حتى الآن في الثقافة الغربية عن طريق البحث عن العوامل التي سببت نشأتها. ويجوز في كثير من الأحيان تفسير الظاهرة بعامل واحد، وبذلك تنشأ العقلية أحادية الطرف تتقلب على العوامل، واحدا تلو الآخر، لا تستقر على حال، وانتقلت الثورة على الموروث إلى هذا الموروث ذاته تبحث عن مصادره فتحللت النصوص الدينية وتفتت إلى مصادرها في تاريخ الأديان أو تاريخ المجتمعات القديمة، وثبت أن ما ظنه الناس قرونا طويلة وحيا أنه ليس كذلك، بل مجموعة من كتب التاريخ القصصي والأساطير. تحللت النصوص ورجعت كل فقرة إلى مصادرها في بابل أو آسيا الصغرى أو مصر، وظهرت بواعث التأليف سياسية واقتصادية واجتماعية. ولما أثبت التحليل جدارته في النصوص الدينية في الغرب ولما كان المستشرق في النهاية باحثا غربيا نشأ وتكون في الثقافة الغربية ظن أن ما حدث في بيئته لا بد وأن يكون قد حدث ضرورة في كل بيئة أخرى، وهذا هو خطر تعميم الجزء على الكل. لقد سارت العقلية الأوروبية في المناهج التحليلية لأنها اصطدمت بمعطيات مركبة أضرت بها وبواقعها، وكان لزاما عليها تحليلها للكشف عما إذا كانت معطيات صحيحة أو باطلة، فالتحليل باعث في الشعور الأوروبي كوسيلة للكشف عن الزيف والبطلان.
وقد يستعمل التحليل عمدا للقضاء على الطابع الكلي الشامل، وهو أهم ما يميز الحضارة الإسلامية التي قامت أيضا على وحي كلي شامل؛ فبتفتيت الكل لا يرى أحد الأجزاء المتناثرة، ومن ثم لا تختلف الحضارة الإسلامية عن الغربية في شيء، فكلاهما مجموعة متناثرة من الأجزاء. وقد يستعمل التحليل بطريق لا شعوري تعبيرا عن رغبة دفينة في الهدم وقضاء على الموضوع؛ فالتحليل تفتيت وسحق، يحقق للباحث ما يريد من القضاء على الظاهرة إن أراد، وقد يستعمل التحليل حتى يمكن رد كل جزء إلى أجزاء شبيهة في حضارات معاصرة، ومن ثم يكون التحليل مقدمة لإثبات الأثر الخارجي وتفريغ الحضارة من مضمونها الأصيل.
وقد حاولت المناهج الغربية المعاصرة استدراك الأمر، فظهرت المناهج التكاملية التي تبغي أخذ العوامل كلها مرة واحدة، واستبعاد التفسير الأحادي للظاهرة، كما ظهرت مناهج «الجشطلت» تعطي الأولوية للكل على الأجزاء، ونشأ منهج وصف الظواهر يعطي أيضا الأولوية للكل على الأجزاء، ويجعل من الظواهر الفكرية ماهيات مستقلة عن عواملها المادية، بل ونشأت مذاهب فلسفية كاملة، مثل مذهب هيجل تقوم على وصف الكل وأن الأجزاء ما هي إلا تعيينات للكل الذي يتطور ويظهر في الأجزاء، ويتجلى وينكشف على مسار التاريخ، ولكن المستشرق نادرا ما يأخذ بيئته الثقافية موضعا للدراسة والتأمل، ونادرا ما يحلل شعورها الخاص لرؤية عملياته، يخضع لمؤثرات بيئته، ولا يحاول التحرر منها بالرغم من النداءات المعاصرة والتنبيه على الأخطار، ولكن في الشرق، وفي رحلاته إليه، بل وفي رغبته في التخصص الدقيق، والبحث المنمق، ينسى الكل وراءه أو فوقه، لم يتابع المستشرق في منهجه التحليلي أي مناهج تحليلية في القرن العشرين، تحليل اللغة، تحليل المفاهيم والتصورات، تحليل المنطق، تحليل الرموز، تحليل المعطيات الحسية، تحليل التجارب الشعورية، التحليل النفسي، التحليل العاملي ... إلخ، أي أنه حتى في تحليله التاريخي انعزل عن الفلسفة التحليلية، وهي إحدى فلسفات العصر الرئيسية، كرد فعل على المناهج التركيبية والنظرات الشمولية والمذاهب الشامخة التي سادت القرن التاسع عشر، وكان بإمكانه الاستفادة من كل هذه المناهج التحليلية الفلسفية؛ لأنها أكثر قدرة على تحقيق أهدافه الثابتة وأكثر تعبيرا عن عقليته الغربية، وقد تكون المناهج التحليلية المعاصرة على مشارف الانتهاء بحدوث رد فعل عليها والعودة إلى النظرة الشاملة للأمور، ولكن المنهج التحليلي الاستشراقي باق لا يتغير، ومستمر منذ نشأة الاستشراق حتى الآن، فالاستشراق لا يحدث ردود فعل على نفسه، فهو الفعل ورد الفعل معا، وأي مستشرق يرفض المناهج التحليلية ويحاول إعطاء نظرة شاملة، فإنه يتعسف في النظرة، يركبها طبقا لهواه أو لأحكام عامة على الحضارة بالجدب، وعلى الدين بالجمود، وعلى الوحي بالاضطراب والاختلاط، وعلى التوحيد بالتجريد، وعلى العقائد بالقضاء والقدر، وعلى الشعوب بالتخلف.
وليس معنى ذلك أن المنهج التحليلي في ذاته عقيم، ففي تراثنا القديم نماذج من التحليلات التي تكشف عن البناء الكلي، بل إن التراث كله قائم على نظرية في التحليل، تحليل الوحي إلى مراحل، وتحليل العقائد إلى أصول، وتحليل أصول الفقه إلى أدلة، كل علم يقوم على تحليل، وأوضح مثل على ذلك علم أصول الفقه وعلوم التصوف، ففي علم أصول الفقه تحليل الشعور التاريخي، وتحليل مناهج الرواية، وتحليل الألفاظ، وتحليل الأحكام، وفي علوم التصوف تحليل الأحوال والمقامات، وتحليل مراحل الطريق الصوفي، ولكن التحليل هنا هو التحليل التكويني الذي يكشف عن البناء العام أو التحليل الارتقائي الذي يبين مراحل التكوين، وليس التحليل التجزيئي الذي يقضي على بناء الظاهرة وينفي وجودها. (1-3) المنهج الإسقاطي
ويقوم هذا المنهج، وهو في الغالب لا شعوري باستبدال الظاهرة المدروسة بظواهر أخرى هي أشكال الأبنية النظرية الموجودة في ذهن المستشرق، يراها في الواقع مخفيا بذلك الظاهرة الموضوعية التي أمامه، والتي كان في نيته دراستها، قد يكون الإسقاط مطلقا عندما لا يرى المستشرق من الظاهرة التي أمامه شيئا ولا يرى فيها إلا صورته الذهنية، وقد يكون نسبيا عندما يرى الظاهرة ولكن يضيع منه تفسيرها الحقيقي وكيفية خروجها من النص الديني، ويعطي بدلا عنه تفسيرا آخر يخضع للأبنية النظرية لصوره الذهنية، فالظاهرة الموجودة بالفعل بما أنها لا توجد كصورة عقلية في ذهن المستشرق فإنه يحكم عليها بالنفي، والظاهرة التي لا وجود لها بالفعل ولكنها توجد كصورة ذهنية عند المستشرق فإنه يحكم عليها بالوجود الفعلي، والشيء الوحيد الموجود بالفعل يصبح خلطا؛ لأن البناء النظري في ذهن المستشرق بناء ثنائي، والشيء المتميز الموجود بالفعل يصبح تفرقة لأن صورته الذهنية في ذهن المستشرق صورة متفرقة، وهكذا يصدر المنهج الإسقاطي أحكاما قيمة يعلي فيها من شأن هذه الصور الذهنية ويقلل من شأن الموضوعات المدركة بالفعل، ويتضح هذا باستمرار خاصة إذا كان موضوع الدراسة نفسه باعتباره مقياسا للظواهر الفكرية يمكن أن يكون مرآة تعكس الصور الذهنية المسقطة عليها من شعور المستشرق، وأن يردها من جديد إلى ذهنه، الإسقاط إذن خطأ في الإدراك يجعل المستشرق في عزلة ذهنية، ويضعه في موقف نرجسي خالص عندما لا يرى في العالم الخارجي من موضوعات إلا ما هو موجود في نفسه كصور ذهنية.
صفحة غير معروفة