تعد الرواية الموجزة لباوسانياس أساس السواد الأعظم من التاريخ المقتضب الموجود في الكتب الإرشادية عن هذه الفترة. وحتى حين لا تذكر هذه الكتب باوسانياس بالاسم، فإنها تقدم لقارئها المعاصر الكثير من المعلومات التي نقلها هو إلينا؛ كالطاعون الذي يكمن خلف تأسيس المعبد، والرابطة مع الحرب البيلوبونيزية البشعة ومع معماري البارثينون. وكذلك بطبيعة الحال كانت رواية باوسانياس (وتحديدا ذكره لإكتينوس) هي ما حفز كوكريل وأصدقاءه على الذهاب في رحلة بحثا عن معبد أملوا أن يكون بارثينون آخر. وقد كتب كوكريل نفسه يقول: «الحقائق المثيرة للاهتمام التي سجلها باوسانياس ... كانت سببا كافيا يثبت [له وللمسافرين السابقين] أهمية هذا البحث.»
كان تبين الأسباب التي دعت باوسانياس لزيارة باساي عملية أكثر صعوبة بكثير؛ فهو لا يقول صراحة ما الذي دفعه للسير في هذا الطريق الجبلي الطويل المسدود، فقط كي يرى هذا المكان المقدس، الذي كان يصعب الوصول إليه في القرن الثاني الميلادي مثلما كان يصعب الوصول إليه حين ذهب كوكريل إليه. فأثناء رحلته إلى المدينة الرئيسية، أركاديا (التي تعني حرفيا «المدينة الكبيرة»)، كان قد شاهد بالفعل تمثالا من البرونز لأبوللو كان قد أزيل في وقت سابق من المعبد الموجود في باساي، ووضع في مكان مفتوح كي يراه العامة. ربما شجعته رؤية هذا التمثال على الذهاب وتقصي أمر المعبد الذي جاء التمثال منه أصلا. أو ربما كان يتتبع المباني التي صممها معماري البارثينون العظيم.
لكن بصورة إجمالية توافقت زيارته إلى باساي وتوصيفاته للمعبد على نحو وثيق مع الأولويات والاهتمامات التي أبداها عبر دليله الإرشادي. كان باوسانياس ابنا من أبناء مدينة يونانية توجد حاليا في تركيا (لا يخبرنا تحديدا أي مدينة هي). وقد كان يكتب باليونانية، من أجل جمهور متحدث باليونانية، عن جغرافيا اليونان وتاريخها والمعالم الموجودة بها. لكنه كان أيضا يكتب بعد انقضاء أكثر من مائتي عام على الغزو الروماني للعالم الإغريقي. ومن ثم، يكون من الصحيح على حد سواء أن نعتبره مواطنا من مواطني الدولة الرومانية، يصف لنا جولة في أرجاء أحد الأقاليم المستقرة تحت حكم الدولة الرومانية منذ وقت طويل ، وذلك لجمهور متحدث باليونانية يتكون من مواطنين أو رعايا للدولة الرومانية. لقد ترتب على الغزو الروماني لليونان أمور كثيرة، لا تنحصر فقط في تبعية اليونان لروما. فبحلول وقت باوسانياس كانت أبرز المعالم الجديرة بالمشاهدة بالبلاد تتضمن مباني تذكارية شيدتها السلطة الحاكمة ودفعت تكاليف إقامتها ورعتها: المعابد المبنية بالأموال الرومانية تكريما للأباطرة الرومانيين، والنافورات والتماثيل والأسواق والحمامات التي مولها فاعلو الخير الرومانيون. ذكر باوسانياس عددا قليلا من هذه المعالم ذكرا عابرا، وأغلبها كان إنجازات حديثة، لكن تركيزه، كما في باساي، كان في موضع مختلف تماما.
ركز باوسانياس على المعالم الأثرية الخاصة ب «اليونان القديمة» وعلى تاريخها وعلى ثقافتها، تلك اليونان التي كانت موجودة قبل الغزو الروماني بوقت طويل. إن جولته السياحية هي في واقع الأمر جولة تاريخية تمر بالمدن القديمة والأماكن المقدسة التي تعود لزمن يسبق الحكم الروماني بكثير. والقصص التي يرويها باوسانياس عن الآثار التي يزورها تعود كلها تقريبا إلى تلك الحقبة المبكرة من تاريخ اليونان، بعاداتها وخرافاتها واحتفالاتها وطقوسها التقليدية. إن وصفه لباساي وصف تقليدي، يعود بالقارئ إلى زمن الطاعون الشهير الذي وقع منذ أكثر من 600 عام على وقته، وذلك من دون أي ذكر لأي من الأحداث القريبة في تاريخ المعبد. إن باوسانياس يجعل اليونان «الرومانية» المعاصرة له يستحيل التفرقة بينها وبين يونان القرن الخامس قبل الميلاد، وهو يفعل هذا عن عمد.
إن «الدليل الإرشادي إلى اليونان» إذن يتجاوز كونه محض كتيب سياحي يحمله المسافر؛ أي محض تقرير محايد عن كل ما يمكن رؤيته وكيفية الوصول إليه. فباوسانياس، شأنه في ذلك شأن أي مؤلف لدليل إرشادي، قديم أو معاصر، يتخذ اختيارات بشأن ما يمكن تضمينه وما يمكن حذفه، وبشأن «الكيفية» التي يصف بها الآثار التي يختار وصفها. وهذه الاختيارات تؤدي لا محالة إلى وجود ما هو أكثر (وأقل) من محض «توصيف» بسيط لليونان. يقدم باوسانياس للقارئ رؤية خاصة لليونان والهوية اليونانية، ويقدم له طريقة خاصة للإحساس باليونان تحت الحكم الروماني. هذه الهوية تضرب بجذورها في الماضي السابق على مقدم الرومانيين، والرؤية التي يقدمها باوسانياس تتضمن إنكارا، أو على الأقل إخفاء، للغزو الروماني. بعبارة أخرى، يمنح دليله الإرشادي درسا في الكيفية التي يمكن بها فهم اليونان. وهذا الدرس لم يعتمد على التواجد حرفيا هناك، أو على اتباع باوسانياس في جولة في أرجاء المدن والمقدسات اليونانية. إن قراءة ما كتبه باوسانياس يمكن أن تعلمنا الكثير عن اليونان، حتى لو لم يسبق لنا أن وطئت أقدامنا تلك البلاد. وإلى اليوم تستطيع كتاباته أن تعلمنا الكثير.
أيضا تمنحنا رواية باوسانياس عن معبد باساي درسا مهما بشأن مدى الزعزعة التي تتسم بها معرفتنا بالعالم القديم. إن باساي اليوم أحد أشهر المواقع الأثرية الكلاسيكية وأكثرها رسوخا في الأذهان، ومعبد أبوللو الموجود فيها أحد أكثر المباني رسما وتصويرا ودراسة في اليونان. لكن عبارات باوسانياس المقتضبة القليلة تعد بمنزلة الإشارة الوحيدة للمعبد في كل الأدب الذي ظل باقيا من العالم القديم. ولو كان دليل باوسانياس قد فقد، لو لم يختر ناسخو القرون الوسطى (لسبب أو لآخر) أن ينسخوا هذا العمل تحديدا ويحفظوه لنا، لما كنا لنعلم شيئا عن المعبد باستثناء ما قد توحي به الأحجار والمنحوتات نفسها، ما إن يعثر عليها أحدهم مصادفة. بعبارة أخرى، لم نكن لنملك أي فكرة واضحة عن أن هذا المعبد بني من أجل أبوللو (رغم أن وجود أبوللو وشقيقته الإلهة أرتميس بين الشخصيات المجسدة على الإفريز، كما سنناقش في الفصل السابع، قد يكون دليلا). وبالتأكيد ما كنا لنعرف أي شيء عن اللقب «المغيث»، أو علاقة المعبد بالطاعون، أو مشاركة المعماري الشهير إكتينوس في الأمر.
كيف وصلت الأعمال إلينا؟
تحفل دراسة التراث الكلاسيكي بمثل هذه المواقف السعيدة التي كدنا فيها نفقد أحد الأعمال المهمة. وفي الواقع، بعض من الكتب التي تحظى اليوم بانتشار واسع من بين صنوف الأدب القديم أفلتت بالكاد من أن يطويها النسيان. فشعر كاتولوس على سبيل المثال، بما في ذلك سلسلة قصائد الحب الشهيرة الموجهة إلى امرأة يسميها «ليزبيا»، تدين ببقائها إلى نسخة واحدة خطت باليد في العصور الوسطى. وبالمثل ، نجد أن قصيدة لوكريتيوس بعنوان «عن طبيعة الأشياء»، والتي تسرد بالشعر اللاتيني نظريات الفيلسوف الإغريقي إبيقور (بما في ذلك نسخة مبكرة من النظرية الذرية للمادة)، حفظت هي الأخرى عن طريق نسخة وحيدة. وبطبيعة الحال هناك كتب أخرى لم تكتب لها النجاة على الإطلاق؛ فأغلب ما كتبه المؤرخ ليفيوس عن روما، مثلا، ضاع تماما، وكذلك معظم المسرحيات التراجيدية لكتاب أثينا العظام: إسخيلوس وسوفوكليس ويوربيديس.
لكن هذه الصورة آخذة في التغير طوال الوقت. فمنذ عشرين عاما خلت لم نكن نملك سوى سطر وحيد (مقتبس في كتابات كاتب قديم آخر) لواحد من أشهر الشعراء الرومان؛ كورنيليوس جالوس، الذي عاصر في شبابه كاتولوس وكان صديقا لفرجيل، كما تولى لاحقا حكم مصر إبان حكم الإمبراطور أغسطس. لكن في سبعينيات القرن العشرين، وأثناء عمليات تنقيب جرت في مكب نفايات تابع لحصن روماني قديم في جنوب مصر، اكتشفت قصاصة من بردية صغيرة يمكننا أن نقرأ عليها ثمانية سطور من الشعر لا شك في أن جالوس هو من كتبها. ربما كان أحد جنود جالوس هو من تخلص منها، وربما يكون جالوس نفسه هو من فعل هذا (انظر الشكل
4-1 ).
صفحة غير معروفة