وقد بلغ حنق الشعب وحماسه أقصاه، ولكنه تحكم في أعصابه وأطاع أوامر حزبه في المحافظة على الهدوء والسكينة، وإذا بالسلطات الفرنسية تستفزه وتثير عواطفه، فقد قصدت جماعة من الدستوريات مدينة باجة يوم 15 يناير لتأسيس شعبة نسائية بها، وإذا بقوات البوليس تهاجم مقر الاجتماع، وتلقي القبض على الزائرات كلهن، وعددهن 29 سيدة، وعلى عدد من قادة الحركة الوطنية بتلك المدينة، واحترام المرأة عند المسلمين والعرب أمر مقدس، فلم يتحمل التونسيون ذلك العدوان ورأوا فيه إهانة وتحديا لعواطفهم الوطنية والدينية، فعم الهيجان والاضطراب مدينة باجة، ومن الغد (16 يناير 1952) على الساعة الثانية والنصف بعد الظهر سارت مظاهرة شعبية هائلة تطالب بإطلاق سراح المساجين الذين اعتقلوا بالأمس، وكانت تتقدم بهدوء وسكينة، ثم تفرقت تلبية لأوامر الحزب لكي لا تتصادم مع القوات الفرنسية، ولكن تلك القوات تتبعت أفرادها وأخذت تصيدهم صيدا وتعتدي عليهم، وإذا بالجماهير تنظم مظاهرة ثانية أكثر عددا وأضبط نظاما لتقدم عريضة احتجاج إلى العامل (مدير الجهة)، ولكن القوات المسلحة الفرنسية هاجمتها من غير سابق إنذار وصادمتها صدمة عنيفة وأرادت تشتيتها بالعنف، فرمتها أولا بالقنابل المسيلة للدموع، ثم أمطرتها وابلا من الرصاص، فكان الوطنيون الذين لم يعدوا العدة لخوض معركة دامية يتساقطون عشرات، وقد مات منهم عدد وجرح أكثر من ثلاثين شخصا، وفي نفس اليوم جرت النسوة الدستوريات في مدينة بنزرت أمام المحكمة الفرنسية التي لم تجد مستندا للحكم عليهن، فأطلقت سراحهن لما رأت من غضب الشعب وفورانه؛ إذ تجمع الجماهير بمجرد أن بلغها خبر وصول النسوة إلى بنزرت، وجاء الناس أفواجا من القرى المجاورة للمدينة، وسعوا في عبور الخليج الذي يفصل المدينة عن المنطقة الشرقية على المركب المعد لذلك، ولكن القوات الفرنسية المسلحة احتلت المركب ومنعت الجماهير من ركوبه وهاجمتها حالا، وشرعت من غير سابق إنذار في رميها بنار حامية من بنادقها سريعة الطلقات، ودامت المعركة الصباح كله إلى الظهر، وبقي الاضطراب سائدا في الجهة والمناوشات مستمرة، ولم تهدأ الحالة إلا في الليل، واستشهد في الواقعة عدد من الوطنيين وجرح خمسة عشر جروحا بليغة وخمسة وأربعون جروحا خفيفة.
ولما انتشرت أخبار تلك الوقائع الدامية أعلنت مدن المملكة وخاصة تونس وبنزرت وفريفيل وباجة وصفاس الإضراب العام، ويوم 17 يناير اجتمع الشعب آلافا في مدينة فريفيل القريبة من بنزرت، وفي الساعة الثامنة صباحا سارت مظاهرة كبرى من نادي الشعبة الدستورية إلى مقر السلطات التونسية، لتقدم لها عريضة احتجاج، وكان نظامها دقيقا يسودها ضرب من الخشوع لذكرى الشهداء ظاهر في هدوئها وسكينتها، وإذا بقوات البوليس تهاجمها بغتة وتسعى في تشتيتها بالقوة وتطلق عليها الرصاص، ويسقط المتظاهرون قتلى وجرحى يفوق عددهم الأربعين.
وخرجت مظاهرة عظيمة من منزل جميل التي تقع جنوبي بنزرت وسعت في الدخول إلى هذه المدينة التي كانت مطوقة بالقوات الفرنسية، ودارت بين الوطنيين العزل والجنود الفرنسيين المسلحين المعارك، فسقط قتيل تونسي وجرح عشرات من بينهم خمسة عشر في حالة خطيرة.
وتجددت المظاهرات في الجيهة كلها، وكان أروعها مظاهرة ماطر. (1) اعتقال الزعماء ومؤتمر الحزب
قررت السلطات الفرنسية أن تضرب ضربتها الكبرى يوم 18 يناير، وأن تسابق الحزب الذي حدد ذلك اليوم موعدا لعقد مؤتمر غير عادي لاتخاذ ما تستوجبه الحالة من قرارات، فابتدأت بأن حرمته من القاعات العامة الكبرى ووضعت أمامها حرسا مسلحا، وقد أسرعت إلى إلقاء القبض على رئيس الحزب وزعيم الشعب الحبيب بورقيبة وعلى الأستاذ المنجي سليم مدير الحزب وعلى عشرين شخصية من رجالات الحزب، فهاجمت قوات البوليس الفرنسي في الساعة الرابعة صباحا بيت الحبيب بورقيبة وأخذته من فراشه وألقت عليه القبض حالا، وكذلك فعلت مع الأستاذ المنجي سليم ونقلتهما إلى مطار «العوينة» قرب تونس ومنه إلى مكان مجهول. ووصلت الأخبار في المساء أنهما أخذا إلى طبرقة للإقامة الجبرية فيها، وهي تقع على شاطئ البحر قرب الحدود الجزائرية، أما بقية المعتقلين، فوقع إبعادهم إلى صحراء الجنوب، وأصدرت الإقامة العامة بلاغها في اليوم نفسه وجاء فيه: «إن المقيم العام عندما اتخذ هذه الإجراءات قد أوضح عزمه الراسخ على المحافظة على النظام الذي يحمل مسئوليته، وهو يريد بذلك وضع حد للأعمال الخارجة عن القانون التي تقوم بها عناصر غير مسئولة لا يمكن أن تتسامح معها في ضغطها على سلطات البلاد.»
ويظهر جليا من هذا الكلام أن «دي هونكلوك» يظن - تحت تأثير الجالية الفرنسية - أن إبعاد بورقيبة وصحبه سيخلي له الجو ويمكنه من الاستحواذ على الوزارة التونسية وجلالة الملك نفسه، ولكن الحقيقة ظهرت حالا؛ إذ كل تونسي يحمل في نفسه المبادئ الوطنية المقدسة لا يحتاج إلى تأثير خارجي ليقوم بما يفرضه عليه الواجب، ويعلم المقيم العام ومستشاروه أن اعتقال الزعماء إنما القصد منه إثارة الشعب في ذلك الجو المكفهر الملبد؛ ليتمكن من اضطهاده اضطهادا عاما شاملا، وخاصة أن يهيئ الأسباب للقيام باعتداء مسلح ضد شعب تونس رجاء القضاء على الحركة الوطنية.
إن السلطات الفرنسية منعت بالفعل عقد مؤتمر الحزب عند عدم السماح له بالاجتماع في إحدى القاعات الكبرى، ولم يكن في إمكانها منعه قانونيا؛ لأنها ألغت الحزب بقرار رسمي يوم 11 أبريل 1938، ولم تعترف به منذ ذلك التاريخ، ولكن الحزب الذي له السيطرة الواقعية على البلاد، عقد مؤتمره سرا صباح ذلك اليوم الصاخب، وقد رأسه أحد أعضاء الديوان السياسي الأستاذ الهادي شاكر، وبعد مناقشة دامت ساعتين أصدر اللائحة التالية التي وقعت الموافقة عليها بالإجماع:
لائحة المؤتمر
إن المؤتمر الوطني غير العادي للحزب الحر الدستوري التونسي المنعقد بتونس في 18 / 1 / 1952 برئاسة الهادي شاكر، بعد الاستماع إلى تقرير عن نشاط الحزب.
ونظرا لأن الحزب بعد موافقة «المجلس الملي المتسع» قد دخل في تجربة تعاون صريح مع فرنسا على أساس إلغاء الإدارة المباشرة والوصول بتونس إلى الحكم الذاتي.
صفحة غير معروفة