وأكرمت الدولة العثمانية وفادة جميع التونسيين المنفيين وأعانتهم على متابعة كفاحهم في الخارج، وأسندت إلى بعضهم مناصب عالية ليسهل عليهم العمل في سبيل استقلال وطنهم. ومن أبرز تلك الشخصيات «علي باش جانبه»، والشيخ صالح الشريف، والشيخ إسماعيل الصفائحي. أما الأستاذ محمد باش جانبه أخو علي باش جانبه، فإنه أسس بسويسرا لجنة «تونس جزائرية» وأصدر باسمها مجلة «المغرب» التي تصدت للدفاع عن شعوب المغرب وحقوقها، وقد توفي ببرلين وحيدا فريدا بعد كفاح طويل مرير، ولم يحضر دفنه غير الأمير شكيب أرسلان، رحم الله الجميع رحمة واسعة. وكان أمير البيان يزور قبر صديقه في الجهاد كلما مر ببرلين، ويتأسف لرؤيته مهملا مبعثر الأحجار.
أما في داخل تونس، فازداد الضغط واشتدت وطأة الأحكام العرفية، واتسعت الاعتقالات بين الشباب القومي لأتفه الأسباب خوفا من دعايتهم في وسط الشعب وما تجره من ثورة.
ورغم تلك الاحتياطات كلها اندلعت نيران الثورة في الجنوب وشاركت فيها بداية عام 1915 قبائل بني زيد المعروفة ببأسها وفروسيتها وفتوتها تحت قيادة بطلها الحاج سعيد بن عبد اللطيف الذي أخذ يخوض المعارك الواحدة تلو الأخرى بعد وضع خططها. ففي عام 1916 قضى في مرة واحدة على القسم الأكبر من القوات الفرنسية؛ إذ بيتهم وهاجمهم برجاله بالسلاح الأبيض، كما وضع لهم كمينا في أحد المضايق وأفنى فيلقا كاملا في بداية الثورة، ودامت الحرب عامين كاملين، ولم تتغلب فرنسا إلا بعد أن أتت بالنجدات يتلو بعضها بعضا، وبعد أن جردت جيشا كاملا جاءت به من واجهة القتال الكبرى. (1-1) الحزب الحر الدستوري التونسي
لقد كال الحلفاء أثناء الحرب العالمية الأولى الوعود المعسولة للشعوب المستضعفة كيلا؛ لكي يستعينوا بها على أعدائهم. وبعد انتهاء الحرب أحيا الرئيس ولسن آمالا جساما فيها لما أعلن عن مبادئه، واتجهت وفود البلاد المغلوبة على أمرها إلى باريس، حيث انعقد مؤتمر الصلح، ومن بينها الوفود العربية ليحققوا تحريرهم الموعود. وفي شهر سبتمبر عام 1918 قدمت لجنة تحرير تونس والجزائر عريضة لمؤتمر الصلح للمطالبة بحقوق شعوب المغرب، وقدم الشيخ عبد العزيز الثعالبي الذي كان يقيم بباريس على رأس وفد تونس عريضة إلى الرئيس ولسن باسم الشعب التونسي مطالبا باستقلال بلاده، ثم نشر في أوائل 1920 كتابه الشهير «تونس الشهيدة» الذي تخاطفته الأيدي التونسية والمغربية عامة؛ إذ يفضح لأول مرة، بعاصمة فرنسا نفسها، طرق الاستعمار الفرنسي، ويبين جناياته.
وفي أثناء إقامة الشيخ الثعالبي بباريس قام صحبة من الوطنيين بتشكيل الحزب الحر الدستوري التونسي عام 1919، وقد كانت فاتحة أعماله رفع مذكرة إلى جلالة الملك محمد الناصر، يطالبون فيها بإصدار دستور ينظم الدولة التونسية طبق المبادئ الديمقراطية، وقد وجدوا من جلالته عطفا شاملا وتأييدا كاملا، ولم يعلن الحزب عن الاستقلال كغاية يرمي إليها لأن الظروف لم تكن مساعدة، بل اقتصر على برنامج إصلاحي واسع النطاق أهم ما فيه السعي لإرجاع ما اغتصبه الفرنسيون من سلطات إلى أيدي التونسيين.
ولبى الشعب نداء الحزب والتف حوله وتكتل فيه الشباب العامل وانبث في المدن والقرى، يؤسس له فروعا وينظم صفوف الوطنيين ويقيم الدعوة له في كل مكان.
وأخذ القصر الملكي يؤازر الحزب بفضل أعظم نصير له به: الأمير محمد المنصف، النجل الأكبر لجلالة الملك الذي لم يقتصر على مجرد التأييد، بل انضم إلى الحزب وأدى يمين الإخلاص للمبادئ الوطنية.
ولم تبق السلطات الفرنسية مكتوفة الأيدي أمام اتساع الحركة التونسية، فأسرعت إلى إلقاء القبض على حامل لوائها الشيخ عبد العزيز الثعالبي بباريس ونقلته والأغلال في يديه إلى السجن العسكري بتونس، وأقامت عليه دعوى خطيرة بتهمة التآمر ضد أمن الدولة. ولما رأت هياج الشعب وحماسته واندفاعه في الدفاع عن زعيمه، اضطرت إلى إطلاق سبيله، فخرج من السجن وقاد بنفسه الحركة الوطنية.
وإذ ذاك لجأت فرنسا إلى تغيير مقيمها العام في تونس ربحا للوقت وانتظارا للفرص السانحة، وتلك طريقة اتبعتها فرنسا في مستعمراتها؛ إذ تكتفي بتبديل الأشخاص وتتمادى في نفس السياسة الاستعمارية.
ووصل المقيم الجديد «لوسيان سان» إلى تونس في يونيو 1921، وهو أخطر مقيم عرفته، فشرع حالا في رفع الأحكام العرفية؛ لكي لا يشاركه العسكريون في النفوذ، وعوض المجلس الشوري بالمجلس الكبير، وأسس وزارة العدل، وفصل بين السلطة القضائية والسلطة التنفيذية، وأطلق الحريات من عقالها، فازدهرت الحركة الوطنية وتعددت الصحف وكثرت الاجتماعات العامة.
صفحة غير معروفة