E. F. Gautier ، وبخاصة على كتابه القيم: “Les Siècles obscurs du Maghreb” Paris, 1927
في هذا الموضوع.
متى بدأت تونس تتخذ طريقها نحو وضعها المعاصر؟ أو بعبارة أخرى: متى بدأت العوامل الفعالة في تشكيلها بشكلها المألوف لنا؟ نرى أن ذلك كان في القرن العاشر الهجري، عندما امتد نفوذ الدولة العثمانية إلى ذلك القطر، وقد ترتب على ذلك من أول الأمر اتخاذ الأقطار المغربية قاصيها ودانيها التقسيم الجغرافي السياسي المعروف، كما ترتب عليه اندماج القطر التونسي في العالم العثماني بكل ما في هذا من نتائج خطيرة.
وقد تعرضت الأمم العربية والأوروبية التي دخلت في نطاق العالم العثماني لأحداث أكسبتها لونا من الوحدة التاريخية، كما أن القوة العثمانية حالت بلا شك دون اتصال تلك الأمم بالحضارة الأوروبية الناهضة، وإن كان الباحث المنصف لا يستطيع أن يسلم بأن الأوروبيين في القرن السادس عشر، وما تلاه من الأزمنة كانوا على استعداد لأن يقدموا للمسلمين وللمسيحيين من رعايا السلطان العثماني ثمرات نهوضهم العلمي هدية خالصة، والمنصف لا يجهل أن تقدم الحضارة الأوروبية كان في أغلب الأحايين اسما مرادفا لما كانت تقوم به الأسرات المالكة في أوروبا من الحروب في سبيل المجد، يشد أزر الملوك - ولكن في سبيل المجد الأعلى - رجال الدين، وفي سبيل الاستغلال رجال المال. إلا أن ما يؤخذ على الملك العثماني بحق أنه لم يقم على فكرة سياسية أو اجتماعية جديدة، ولم يفتح لرعاياه العديدين المختلفين بابا لتنظيم علاقاتهم المختلفة على غير ما عرفوا من المبادئ، فضاعت عليهم بذلك الإفادة مما كان للعالم العثماني من موقع فريد في نوعه، ومن ميزة اشتماله على أمم لها ما لها من نصيب كبير في تقدم الإنسانية.
وقد أكسب العهد العثماني تونس - كما أكسب مصر - عنصرا حاكما جديدا في بابه، لا يقوم على عصبية قبلية أو دينية، ولا يدعو لأية فكرة عامة من أي نوع كان، بل ليس له من هم إلا الاستيلاء على أزمة الحكم مستعينا بأعوان على شاكلته، والمتصفح لتاريخ الدايات والبايات والأغوات والأسطوات والرؤساء العثمانيين فيما بين القرنين العاشر والثالث عشر الهجريين لا يمكنه إلا إقرار ما ذهبنا إليه، حقيقة كان من هؤلاء الصالح والطالح، الخير والشرير، ولكنهم جميعا ينطوون على نوع واحد من أنواع السلطان.
وثم اختلاف بين هذين العهدين المضطربين من تاريخ تونس ومصر. ففي الأولى - في تونس - كان بين العنصر الحاكم فيها وأوروبا حرب مستمرة، أما في الثانية - في مصر - فلم يحدث إلا ما كان بين الحكام والتجار الأوروبيين من سوء العلاقة.
ومما ينبغي أن يعترف به لذلك العنصر العثماني الحاكم ما توافرت فيه من صفات قوة القلب والرياسة والاضطلاع بمهام الأمور، وهي صفات ملكته رقاب الرعية الكادحة، وجعلت منه الأداة الأولى لتطور تونسي جديد، وذلك أن الكتخدا حسين بن علي تقلد أمر تونس في سنة 1117ه، وتمكن من جعل البايوية وراثية في بيته - البيت الحسيني - واستمرت فيه إلى يومنا هذا، وقد تقدمت تونس، مصر - في هذا، فقد تولى محمد علي باشوية مصر في 1220ه وأسس بذلك البيت المحمدي العلوي.
وقد نجح البيتان الحسيني والعلوي نجاحا تاما في تقويض النظام الذي أنبتهما، وحطما العصبيات المسلحة وغير المسلحة التي ترعرعت في ظل السيادة العثمانية، وأقاما سلطانهما على شبه نظام قومي. فمهدا بذلك لنمو قومية تونسية وقومية مصرية بالمعنى الحديث للقومية.
والمتتبع لتاريخ تونس في ظل البيت الحسيني يلحظ مروره بالأدوار الآتية - وهي بصفة عمومية شبيهة بالأدوار التي مر فيها التاريخ المصري في القرن التاسع عشر.
أحس أمراء تونس إحساسا قويا بضرورة إنشاء قوة حربية مجهزة تجهيزا حديثا، تحل محل العصبيات المسلحة التي يخشونها، وتمكنهم من بسط حكمهم على سائر أجزاء المملكة، وتصون حدودهم. فبدءوا بهذا وفعلوا ما فعله سليم الثالث ومحمود في الدولة العثمانية، ومحمد علي في مصر.
صفحة غير معروفة