إذا سلمت رؤوس الرجال من الردى .... فما المال إلا مثل قص الأظافر اللهم إنا نعوذ بعظيم عفوك، ونلوذ بخفي لطفك، من عذابك الذي لا يدفعه إلا رضاك، ونار عقابك التي أعددتها لمن خالفك وعصاك، فإنه لا طاقة لنا على عذابك ولا حول ولا قوة إلا بك. ولما بلغت هذه القصة إلى الملك أقامه ذلك وأقعده، وأبرق بسببها على الناس وأرعد، حتى أن الوزراء ما زالوا يخفونها عليه، ويهونونها لديه فغفل عن شأنها، وأعرضوا عن الإحتفال بها[91/ب] وأما نحن فلم نعبأ برفع مثل ذلك إلى الملك وقلنا له حين سألنا عنها ليس في مثل هذا بأس، ولم نظهر له التوجع من أحد من الناس، وإنما استعنا على ذلك بالله عز وجل، وبحسن الصبر، وإعمال الحذر، ومصاحبة الحزم، وإحسان النظر، واشتغلنا بمعالجة الملك في حصول الإذن منه لنا في العود إلى ديارنا، والإقبال على أعمال سفرنا، فما برح يطاولنا في الوعود، ويروح في المماطلة ويعود، حتى مضت علينا تسعة شهور كاملة، إلا أنه عرض من الأعذار للملك في تحيرنا دخول أيام الخريف، وما يعتاد فيها من توالي الأمطار، واتصال ذلك في جميع ساعات الليل والنهار، فيستمر مطبقا أربعة أشهر لا ينقشع سحابه، ولا ينقطع في تلك الشهر على تلك الديار ودقه وانصبابه، حتى أنهم ليعدون كثيرا من ذخاير النفقات، وما يتبعها من القوانين المصروفات، قدركفاية أيام الإطباق لما يحصل من احتباس الناس، وانقطاع الأسواق، ولقد رأينا تلك الديار مع هذه الأمطار يظهر للعيون بأعجب ما يراه الراؤن من حسن خضرتها، وكمال نضارتها، سهلها وجبلها، وجميع أرجائها وجوانبها، وتزهر مع ذلك بأنواع الزهور البرية، بلون الخضرة الزبرجدية، والحمرة الوردية، والصفرة العسجدية، وقد يأخذون من هذه الزهور المذكورة ويتخذون منها صبغا عجيبا يحبسونه بشيء من الممسكات ثم يصبغون به في الثياب وفي شيء من البسط يشبه الرومية، فيكون صبغا رايقا، ولونا مناسبا لايقا، ومع اتصال تلك الأمطار، وتواليها على عموم تلك الأقطار، لا تتيسر مواد الأسفار، ولا يأمن الإنسان من الوقوع في الأخطار، فأقمنا تلك الأيام كالقبض على جمر الغضا، والصبر على سفح اللظى:
صفحة ٣٩٩