مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين رب يسر وأعن. الحمد الله القيوم على خلقه بلا مراس، الموجود فلا حد لوجوده ولا قياس، الذي لا يدرك بالحواس، ولا تحيط به الأكوان ولا تحله الأنفاس، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له إلى الجنة والناس، الذي أنزل عليه الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس، صلى الله عليه وعلى آله المطهرين من الأرجاس، وأشهد أن علي بن أبي طالب خليفته بالدليل الذي لا شك معه ولا إلباس، وأن الإمامة في ولده بالإجماع الذي عليه كافة الناس، وأنهم قرناء الكتاب والشهداء على الناس.
صفحة ٩٢
وبعد: فإنه حداني محبة العترة النبوية كما أمرني رب البرية، وجاءت به الآثار المصطفوية أن كتبت جملا من وسيع سيرة مولانا وإمامنا ومجدد عصرنا، والمشبه بموسى الكليم فينا، بإهلاك الله سبحانه على يديه عدونا، ونفيه الذل عن أعناقنا، الإمام الأعظم، وحجة الله على أهل عصره من الأمم، المنصور بالله أمير المؤمنين القاسم بن محمد بن رسول الله -صلوات الله وسلامه على روحه الطاهرة في الدنيا والآخرة- ولما كان بركته فينا وخليفته علينا بالحجج الباهرة والأدلة الظاهرة ولده الإمام الكامل، والخليفة العادل، المؤيد بالله أمير المؤمنين محمد بن أمير المؤمنين-صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين-. فألفت لذلك كذلك جملا من سيرته، وزبدا من فوائد دعوته، ونبذا من غرائب ما أعطاه الله من بعض الوصف لصفته. فلما قبضه الله إليه واختار له ما لديه مقبولا عمله، مشكورا سعيه، محمودا فعله، بعد أن أظهر حجته وأعلى كلمته، ونشر دعوته، فأظلمت على أهل الإسلام معالمهم فماجوا ، وتعتع أهل الأمان فهاجوا ، وأشفقوا من الخلاف المفرق وطاشوا وعاجوا، وكان مولانا السيد الأفضل، والعلم العلامة الأطول، ربي حجر الخلافة النبوية، ورضيع أخلاف الدوحة العلوية، صفي الدين أحمد بن أمير المؤمنين المنصور بالله رب العالمين -أطال الله بقاه- في مقام أخيه الإمام، وشقيقه الهمام، فرع العيون إليه، ولمقامه رضى أن يكون وإن خالف الأقلون حفظا للموجود وصيانة للحدود، وإن الحال[1/ب] المعهود فبايعوه وشايعوه عقب الزوال من يوم الخميس في سابع وعشرين رجب الأصب سنة أربع وخمسين وألف[6ديسمبر 1644م] بمنزل الإمام -عليه السلام- الشرقي من داره الطاهرة من سعدان ومحروس شهارة -عمرها الله بالتقوى-، ولم يعرف حينئذ وفاة الإمام إلا الخواص وهم: مولانا السيد العلامة شرف الدين الحسين بن أمير المؤمنين المؤيد بالله، ومولانا العلامة الفاضل صارم الدين إبراهيم بن أحمد بن عامر بن علي ، والسيد العلامة الطاهر التقي عبدالله بن أحمد بن إبراهيم القاسمي الشرفي ، والسيد العلامة حسام الدين ناصر بن محمد بن يحيى المعروف بصبح القاسمي الغرباني ، والسيد الزاهد العلامة محمد بن شرف الدين الحمزي الكحلاني ، والسيد الكبير الأعلم شرف الدين الحسن بن محمد بن علي بن صلاح القاسمي الشرفي ، والسيد الحبر العلامة شرف الدين الحسن بن علي بن صلاح القاسمي العبالي ، والسيد العلامة المتقن ضياء الدين عز الدين بن دريب بن مطهر السليماني التهامي والسيد العالم الكبير الحسين بن محمد بن علي الحسني الحوثي وغيرهم.
صفحة ٩٤
ومن الفقهاء سيدنا القاضي العلامة في كل فن، ولسان أهل الحق في قطر اليمن، شمس الدين وقميطر علوم آل طه، أحمد بن سعدالدين بن الحسين بن محمد المسوري -أطال الله بقاه- والقاضي العلامة الفاضل جمال الدين علي بن سعيد الهبل الخولاني ، والقاضي العالم الأكمل، والمعول عليه في ما أشكل، صلاح بن نهشل الذنوبي الحجي ، والقاضي العالم المجاهد شرف الدين الحسن بن علي بن صالح الأكوع ، والفقيه العالم الفاضل عماد الدين أبو المساكين يحيى بن محمد بن حسن حنش أمين مال المسلمين، وولده العلامة شرف الدين الحسين بن يحيى وغيرهم من الفضلاء. ثم انتقلوا إلى الإيوان الكبير المنصوري الغربي وقد ظهر للناس وفاته-صلوات الله عليه- فهم يموجون حيرة ويصيحون حسرة، كما يقول السامع إن القيامة قد قامت، ولقد رأيت كثيرا يسعون لغير مقصد، وأخبرني غير واحد أنهم رأوا مثل ذلك واتصل سماع الأصوات بجبال الأهنوم فاجتمع عيون الأهنوم من السادة والفقهاء والمشائخ وغيرهم إلى شهارة قبل الطفل آخر ذلك النهار والبيعة مستمرة يقتدي الآخر بالأول، وكانت لبلاد شهارة والظواهر والمغرب إلى بلاد صعدة وجهات المشرق نحو الشهر.
صفحة ٩٥
نعم! ولما فرغ مولانا أحمد من صلاة المغرب وقد قام لجهاز الإمام -عليه السلام- من قام من الفضلاء، كسيدنا الفقيه[2/أ] العالم عزالدين محمد بن ناصر الغشمي وغيره من الخواص، فبعث مولانا أحمد -أطال الله بقاه- كتبه مضمونها الإعلام بوفاة الإمام -عليه السلام-، وما توجه عليه من القيام ووجه بها الرسل في الليل، وكان أولها إلى مولانا أمير المؤمنين-صلوات الله عليه- وإلى مولانا محمد بن الحسن-أيده الله- ثم إلى سادتنا إلى صنعاء، ثم إلى صعدة ثم إلى كل جهة، وترى الطرق كلها سعاة، وسبحان مقلب القلوب، فإني أقسم بالله صريح قسم، لا صريح خط يعلم، ما رأيت كبيرا ولا صغيرا، ولا عالما ولا متعلما يقطع على تمامها أو يعتقد التزامها، أو لم يشرط عند طلبها ما لم يلزمه من أحكامها، إما ديني أودنيوي، وإنما يقول كل واحد إنما رأيناه عسى ينتظم بها أمور الناس، وتقربها الأمور على معهود الأساس، إلا أربعة من العيون المذكورين أظنهم والله أعلم قطعوا على التمام وإنها نفع للإسلام والله اعلم.
صفحة ٩٦
ومن عجيب ما رأيت بعض بعد صلاة المغرب وقد ملت إلى جنب جدار الإيوان، فقعد إلى جانبي أحد العلماء المذكورين، فقلت له: يا سيدي قد ورد أن بعض أهل الكتاب الأول قال: (ما كنتم يا معشر العرب إذا هلك أمير تأمرتم بآخر ما زلتم بخير) رواه العامر بن مسلم، فقال لي: وا عجبا لك ترى هذا الأمر يتم؟ فقلت: وكيف ذلك؟ فقال: لا يأتي جواب بتمام من جميع البلاد أو ما ترى الحاضرين ومقالهم فكيف بمن غاب! ولكن والتفت إليه مولانا أحمد، وقال: الله يعينه الله يلاطفه فقد وقع في ورطة! أو كما قال. ثم قال أيضا: إذا جعل له لقبا، فليقل المفوض إلى الله! وهو حينئذ (لم يكن قد كتب) اسمه في قليل أو كثير، فكان كما قال: من خرج من شهارة ما عاد إليها!.
صفحة ٩٧
[دعوة المتوكل على الله إسماعيل]
ثم وصل الخبر بدعوة مولانا أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وخليفة الصادق الأمين، المتوكل على الله العزيز الرحيم، إسماعيل بن أمير المؤمنين-أيده الله تعالى- آمين.
فازداد ذلك وتقوى الخلاف كذلك، وظهر من الجمهور ما أضمروه وكثر، حتى لم يبق في شهارة المحروسة بالله تعالى إلا من لم يجد سبيلا إلى الخروج إما رهبة أو حياء من اسم الهرب.
وصار من في شهارة المحروسة بالله إلى اجابة مولانا-أيده الله تعالى- متفقين الكلمة، وإنما اختلفوا في كيفية المخرج، وكان كل واحد يستدعي صديقه أو أصدقاؤه ولا هم لهم إلا الخلاص، ثم استوحش منهم مولانا أحمد فازدادوا نفورا، وامتنع الأكثرون من نائله إما استقلالا وإما شكا، وقد صار معظم عسكره في صنعاء المحرسة بالله. وقد مد من أجابه بالمال، وأما الرجال فلم يقف أحد على رأيه[2/ب] وكان ما سيأتي إن شاء الله تعالى، والدخول في هذه البيعة والخروج منها لم أر أحدا رجع فيهما إلى الشرع أو إلى فتوى عالم، وإنما الناس يدخلون كما تقدم ويخرجون كذلك.
صفحة ٩٨
نعم! فقد حصل من سياق هذه المقدمة صفة بيعة مولانا صفي الدين -أطال الله بقاه- ودعوة مولانا أمير المؤمنين -أطال الله بقاه-، وكان مولانا -عليه السلام- في حصن ضوران المحروس بالله، بعد أن طلع من تعز العدنية وجهاتها ومولانا عز الإسلام محمد بن الحسن-أطال الله بقاه- في محروس مدينة إب فأما الإمام -عليه السلام- فإنه لما وصله الخبر بوفاة الإمام [المؤيد] -عليه السلام- عقب الزوال من يوم الأحد سلخ رجب الأصب، أو غرة شعبان عام أربع وخمسين وألف[1644م] عظم عليه الخطب، وحل لديه الكرب، فدخل منزله وخلى بنفسه، وطفق ينظر في أمره وقد رأى أن دعوة صنوه الصفي غير راجعة إلى شروط الإمامة المعتبرة، وإنما مركزها النظر في الحادثة، وعظم عليه الشقاق والوفاق وأن الإمامة من أصول الدين واستمرار التكليف بها إلى يوم الدين، ولا عذر عن التزامها لجميع المكلفين. فقام لذلك وقعد، وأتهم وأنجد، وحل وعقد، وقد اجتمع إليه العيون من العلماء الفضلاء، فيهم سيدنا القاضي العلامة الحبر الفهامة وحسنة الدهر صارم الدين إبراهيم بن حسن العيزري الأهنومي ، والقاضي العالم المحقق عزالدين محمد بن صلاح السلامي ، والقاضي العلامة صلاح الدين بن علي الوشاح الحاكم الآنسي ، وغيرهم، فنصوا عليه، ووجهوا أمر الخلاقة إليه، وسيأتي إن شاء الله تعالى الدليل على استحقاقه المقام بما هو كالضياء من الظلام، والله الموفق والمسدد.
صفحة ٩٩
[دعوة محمد بن الحسن]
وأما مولاي العزي محمد بن الحسن -حفظه الله تعالى- فإنه لما بلغه وفاة الإمام -عليه السلام-، ودعوة عمه الصفي كما تقدم اجتمع إليه عيون من السادة والفقهاء، وعولوا عليه في القيام فأجابهم وأنشأ دعوة مشروطة، لعلها في يوم الاثنين شهر شعبان، إن لم تتقدمه [دعوة] أولى ونأتي بها إن شاء الله عند ذكر تعارض الدعوات.
وأما صعدة المحروسة بالله تعالى وجهاتها فإن السيد العلامة صارم الدين إبراهيم بن محمد بن أحمد بن عزالدين المؤيدي لما بلغه وفاة الإمام -عليه السلام- أنشأ دعوته في العشة من أعمال الحقل وحضرها جماعة من الفضلاء، ونأتي بها إن شاء الله كما تقدم.
فحصل من هذا أن الدعاة أربعة في قطر واحد، ومذهب واحد، وبصحة إمامة مولانا أمير المؤمنين وسيد المسلمين، وخليفة كتاب رب العالمين، ورسوله الأمين المتوكل[3/أ] على الله العزيز الرحيم، يعرف الحق ويظهر الصدق:
وكيف يصح في الأذهان شيء .... إذا احتاج النهار إلى دليل
فصل: والدليل على إمامة مولانا أمير المؤمنين-صلوات الله عليه- استكمال شروطها بالإتفاق من أهل عصره، وممن تقدمه وتأخر عنه من الدعاة، فإن من تقدمه مولانا أحمد ومولانا إبراهيم فعذرهما عدم علمهما بدعوته الجامعة وإمامته النافعة، وللحادثة وتباعد المسافة، ومعنى إجماعهما على إمامته أنهما لم ينفياها لنقص فيه، وإنما حجة كل واحد منهما التقدم عليه، وتنقطع حجتهم بما سيأتي إن شاء الله تعالى، فحصل الإجماع فيه منهما والخلاف فيهما منه ومن غيره والله أعلم.
صفحة ١٠٠
والمتأخر عنه مولانا عزالدين محمد -أطال الله بقاه- فإن دعوته مشروطة كما تقدم، فلما نظر وأجال الفكر، وقدم وأخر عرف الحق الأبلج، ولم يجد عند الله سبحانه وتعالى عن المبايعة المخرج، وهذا هو الذي صرح به أهل المذهب بلا عوج، إن للناظر نظرة في اجابة الإمام ولو طال لتبين له المنهج. كما روي عن أمير المؤمنين زيد بن علي -صلوات الله عليه- أنه قال: (البصيرة البصيرة ثم الجهاد)، فلما لزمته الحجة واستبانت المحجة قام وشمر وأوى ونفر، وشن الغارات بالفجاج الأكبر، وكان ما سيأتي إن شاء الله تعالى، فحينئذ قام الإجماع بدليلها وكفى به هاديا، وعلى صحتها مناديا.
وأما ما سيأتي من أيام خدار وثلا وما يتعلق بهما من ذي الأذى فإن ذلك لم يكن لتناهب وتغالب وإنما ساقها حكمة إلهية، وآية سماوية، يعلم ذلك من شهدها أو صدق شاهدها، رحمة من الله لعباده- ونعمة منه على بلاده، وسنرى في سياقها آية ذلك إعلانا، وليس الخبر كالعيان ، فصح بهذه الجملة ما قلناه من الإجماع بدليلها على إمامته -عليه السلام- التي يمكن التدليل عليها من الكتاب والسنة والإجماع، بما يستدل على إمامة أمير المؤمنين زيد بن علي-صلوات الله عليه- ومن بعده الأئمة كما هو مذكور في مواضعه من كتب أئمتنا -عليهم السلام-وشيعتهم-رضي الله عنهم- ونورد إلى ذلك ترجيحات، ولما تقدم مؤكدات، وهي ما يحتج بها على السيد صارم الدين كما سنرى إن شاء الله تعالى في الرد عليه وهي كثيرة، ونذكر منها ما أمكن إن شاء الله تعالى.
صفحة ١٠١
[علمه وفطنته]
الأولى: ما زاده الله من سعة العلم، ولا سيما الفقه الذي المدار عليه والمرجوع إليه، فإن كل فقيه من أهل العصر قطع فيه تحقيقه وكفى دليلا على صدقهم ما يراه المتأمل والسائل، إن الجواب في مذهبه وحكاية غيره كأنما هو في راحة يده اليمين، أو في طبق من صين وقد صرح بذلك الإمام الهادي -صلوات الله عليه- وغيره أنه من المرجحات.
الثانية: جودة الفهم والذكاء والفطنة، فلم أر أجلى الأمور المشاهدة مثله، وكذا سمعت كثيرين يذكرون ذلك، أما في العلم وما يتعلق به فظاهر، وأما في فصل الخصومات [3/ب]، أو المواعظ النافعات، أو الكلام الذي يتعلق بالبيان والتعليمات، فكأنه لا يعرف شيئا منه قبل الكلام فيه، فإذا التفت إلى باب منه فكأنما أطل على حقيقته وشاهد كنه دخيلته وكأنما يغرف ذلك من بحر، ولا يتكرر شيء من درر كلامه كما يجري لكثير من غيره، ولقد عرفته قبل الدخول في الإمامة، وهو لا يعرف كثيرا من أحوال الناس لما كان عليه من الخلو بالعلم، والشغف به، وكان لا يخالط غير أهله، ولا يأنس إلى سواه في نهاره وليله.
ولما حضرت معه بعض المجالس في يوم المظالم في الشهر الثالث والرابع من دعوته فكأنما شاهدت غير من عرفت، وأقسم بالله إني تأملته فإذا هو خلاف ما عهدته من جميع أحواله، وأنه فصل خمس خصومات في خمسة مقايل في كل مقيل دعوى وبينة لقوم آخرين مع غير ذلك مما عرض في ذلك المجلس من وافد وسايل ومسلم وهذه الزيادة هي أعظم ترجيح، وقد ذكرها علمائنا، حتى قال بعضهم لم يشترط السلف مع الورع غيرها.
صفحة ١٠٢
الثالثة: الرفق بالرعية والتواضع لضعفاء الأمة المحمدية، والتحنن عليهم، وإيثارهم غالبا على كثير من أغراضه وأغراض خاصته ما شاهد الحال يغني عن السؤال، والوصف يقبح بالمحسوس بالبصر.
ورابعها: وهو ما سيأتي في الحجة على ترجيح إمامته على السيد إبراهيم وهي وجود الناصر، فإنه لم يحصل لأحد من الأئمة -عليهم السلام- ما حصل له-عليه السلام- مع هذا الإختلاف من إقبال القلوب إليه من كل قريب وبعيد، مع أن غالب الأئمة -عليهم السلام- إذا قام الإمام كثر عليه الإختلاف وقل الائتلاف، لغنى أهل الدنيا عنه بما في أيديهم، ولتفرغ كثير ممن يدعي العلم للتعليل بالقوادح عليهم كما ترى في كثير من أحوال الماضين، وهي كثيرة وهو - عليه السلام- لم يلق أحد دعوته بغير القبول، وتكاثرت نذوره فكانت أكثر من نذور أبيه وأخيه مع كثرتها- سلام الله عليهم أجمعين- وفي كل عام بل شهر بل يوم زيادة والحمدلله رب العالمين.
ويكفي دليلا لهذه الجملة أنه دعا ولم يكن عنده إلا دون المائة الرجل فتفرقوا رسلا.
صفحة ١٠٣
وأما رتبة الحصن المحروس بالله، فإنهم اشتغلوا به كما سيأتي إن شاء الله تعالى، مما أخبرني من شهد ذلك أنه كان يسود خطوط الدعوة على ضرب من الاختصار، وكان كل من حضر مجلسه يسود لنفسه ويأتي إلى الإمام فيعلم عليها فما كان ثاني شهر أو ثالثه إلا وقد جمع الله تعالى له اليمن من مكة إلى عدن، وقد صارت عساكره وخيله لا تكاد تنحصر، فهل المراد بكلام أهل المذهب لم يتقدمه مجاب عبارة (الأزهار) أو انهض منه[4/أ] كعبارة (الأثمار) أو أكمل كعبارة (الفتح الغفار) غير هذا مع غير ذلك من الترجيحات، مما أقصر الفهم عن إدراكه وكل الوهم لضعف التصرف في جوامع ملاكه، وأعلم أن الله سبحانه وتعالى ألقى في قلوب المسلمين لمولانا أمير المؤمنين الميل الشديد والحب الأكيد، والأمل الصالح، والفضل الراجح، غير أنهم ربما يرون في أيام دعوته الميمونة أنه -عليه السلام- لا يقوى على هذا التكليف العظيم، والفرض والواجب العميم، لما عليه الناس من الاختلاف، وذلك أنه -عليه السلام- في أيام أخيه مولانا أمير المؤمنين المؤيد بالله لا يعرف أحوال الناس لانشغاله في الطلب والإكباب عليه سمرا وسحرا، وآصائلا وبكرا، فلما صار الأمر إليه، ودارت حوائج الإسلام عليه زاده الله في هذا الشأن، ما ظهر لأهل الإيمان وفاق به الأقران، وإن الله سبحانه وتعالى ألقى عليه الهيبة والجلالة، والقدرة في كل حالة على القيام بهذا الفرض العظيم والتكليف الجسيم، بما لا يقال له فيه قرين، ولا ما يقرب منه في أمر الدنيا والدين، فإنه -عليه السلام- يلي أكثر الأعمال بنفسه الشريفة، ويباشرها بيده الكريمة حتى في نفقات الوافدين من الأمراء والسلاطين، والفقراء والمساكين، على ضرب من التفضيل. مما أخبرني الثقة ممن شهد ذلك أنه -عليه السلام- ظن في مخازن بيت المال تقصيرا فقصد المخزن وأمر بالصرف في الناس حتى أتى على آخرهم، ومن ذلك أن أغلب خزاين بيت المال وصرفها بيده وأن ما يوجه اسما لمعين إلى خازن معين، ولم يكن في يديه غير ما أعطاه -عليه السلام- وعينه.
صفحة ١٠٥
ومما سمعت من حي القاضي الخبير في القضاء، الألمعي في الاستنباط والإمضاء، عبدالهادي بن أحمد الثلائي المعروف الحسوسة-رحمه الله-، وقد سمع من بعض الأصحاب الخوض في التفضيل كما يحصل في المجالس من القال والقيل، إن قال: اعلموا يا أصحاب أن الأمور إلى الله سبحانه، والخيرة بيده، فلا يستعظم الكبير، ولا يستحقر الحقير، فإن الأمر لله العلي الكبير، أو لا ترون أن الإمام الشهيد أحمد بن الحسين -عليه السلام- اتفق أهل زمانه أنه أكثرهم علما، وأرجحهم حلما، غير أن في سيرته ما يخالف الصواب، فهو لأجله غير فاضل [ولما علم الله سبحانه منه خلاف ما قالوا نشر فضله في الآفاق] ومع ذلك يزداد إلى يوم التلاق حتى أنهم الآن لا يلحقون به أحدا ممن سبقه من الأئمة -عليهم السلام- ولا ممن لحقه، وكذا حي الإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى -عليه السلام-، اتفق أهل زمانه على فضله وأنه السابق في محامده ونبله، غير أنه قاصر في فقهه، وإن كان عربيا مفسرا ومحدثا، ونحو ذلك فنشر الله فقهه في الأرض، ورجع إليه أهل عصره ومن بعدهم[4/ب]في السنة والفرض، أو كما قال -رحمه الله-. وهذا الآتي من ذاك، فإن علماء عصر مولانا -عليه السلام-شهدوا له بكل فضيلة، وأنه المعصوم من كل رذيلة، إلا النهوض في العزيمة في المضاء والزجر، فأظهر الله سبحانه وتعالى ما أغمضوه ، ونشر في الآفاق ما أنكروه، حتى فتح الله تعالى عليه الأرض ذات الطول والعرض، بما لم ينله أحد من الأئمة -عليهم السلام- فكم مخافة به أمنت، وكم مفازة خالية سكنت، وكم ضلامة به رجعت، وكم شريعة به رفعت، وكم بدع به قطعت، والحمدلله على ما أعطى، والشكر والمن على ما أولى، وذات يده وهو في كلها واضح الجبين، قليل على الصبر عليه القرين، ومن ذلك قيامه -عليه السلام- في عصابة يسيرة وقد حشدت عليه العساكر من صنعاء وشهارة وغيرهما، وأيضا مع تفرق أصحابه وقلتهم فخرج من الحصن المحروس في أنفار للقاء تلك العساكر المتكاثرة، وغير ذلك مما يشهد له بالثبات.
صفحة ١٠٦
[نسب الإمام المتوكل على الله إسماعيل]
فصل: في ذكر نسبه الشريف، ومولده، ونشأته، وحليته، وخصايصه، وعلمه، وشجاعته، وورعه، وسجاياه، وصبره، ونفقته على الأمة، ودعوته، وكرامته، ونبذ من رسائله في الإرشاد والدعا إلى الرشاد، التي أشار الله سبحانه إليها وحث عليها بقوله: {إنما أنت منذر ولكل قوم هاد } ويسير مما امتدحه أهل الإجادة من العلماء والشعراء وعيون من عاصره من العلماء، ومن ولي منهم القضاء وتعداد عماله -عليه السلام- من العلماء الكملاء وعيون الكبراء.
صفحة ١٠٧
أما نسبه الشريف فهو أظهر من الشمس وضحاها والقمر إذا تلاها، ونذكره تبركا لا إظهارا، ونرقمه لنبدأن إخبارا! فهو أمير المؤمنين، وخليفة رسول رب العالمين، المتوكل على الله العزيز الرحيم: إسماعيل بن أمير المؤمنين المنصور بالله القاسم بن محمد بن علي بن محمد بن الرشيد بن أحمد بن الأمير الحسين بن علي بن يحيى بن محمد بن الإمام يوسف الأصغر الملقب بالأشل بن الإمام الداعي يوسف الأكبر بن الإمام يحيى المنصور بالله بن الإمام أحمد بن الناصر لدين الله بن الإمام يحيى الهادي إلى الحق بن الحسين الحافظ بن الإمام القاسم ترجمان الدين نجم آل الرسول إبراهيم الغمر طباطبا بن إسماعيل الديباج بن إبراهيم المشبه برسول الله بن الإمام الحسن الرضى المثنى بن الإمام الحسن السبط أمير المؤمنين بن علي أمير المؤمنين وسيد الوصيين صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأمه -عليها السلام- الشريفة الفاضلة الطاهرة، أم المساكين تقية، بنت شمس الدين بن الحسن الجحافي من أشراف حبور، وذرية الإمام القاسم بن علي العياني -عليه السلام-.
صفحة ١٠٨
[مولده]
واما مولده الشريف فإنه ولد في منتصف شعبان من عام تسع عشرة وألف في محروس شهارة -حرسها الله بالتقوى-.
وروي أن والده الإمام -عليه السلام- لما وصلته البشرى بمولده الشريف سر كثيرا، وتناول المصحف الشريف وفتحه متبركا به وليسأل الله سبحانه التوفيق إلى اسمه، فكان أول ما فتحه من المصحف الكريم[5/أ] قول الله عز وجل {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء} فسماه بذلك واستبشر به كثيرا، ثم ولد بعده شقيقه الفاضل إسحاق بن أمير المؤمنين -عادت بركاتهما-، وهو المقبور في صرح مشهد أبيه، مات صغيرا وله من العمر[...] ، وكان الإمام -عليه السلام- كثيرا ما يحمله [في صغره يعني مولانا -عليه السلام- ولقد رأيت حي والده-صلوات الله عليه- يأمر بحمله] بين يديه وهو يجهز السرايا والبعوث مع غيره من أبنائه، غير أنه كان أخصهم وأصغرهم سنا، فكان يضعه في حجره إذا دعا مع إرساله السرايا والغارات ويأمرهم بالتأمين على دعائه، ولذلك تراه يحفظ كثيرا من أفعال والده -عليه السلام- وأقواله وهو في تلك السن، وإنما ذلك لفرط ذكائه.
صفحة ١٠٩
[نشأته]
وأما نشاته الطاهرة، فإنه معروف بالطهارة ومخايل الفضل عليه ظاهرة.
مما أخبرني به -صلوات الله عليه- أنه كان مع والده -عليهما السلام- طعاما فوجد في المرق عظما (من بقر فيه) شبه المغرفة فشرب بها مرقا كما يفعله الصبيان وهو في ما دون أربع سنين فانتهره الإمام -عليه السلام- وأخذ العظم ورمى به كراهة للتشبه بأهله.
قال -عليه السلام-: فبكيت، وقلت: فلم أما فلان، وذكر بعضهم وقد رأيته يشرب كذلك؟ قال: ففعل الإمام -عليه السلام- بمن ذكرته ما منعه من ذلك فأنا إلى الآن والحمد لله والله ما أعلم أني أهويت بها إلى فمي أو كما قال.
صفحة ١١٠
[أوصاف الإمام المتوكل على الله]
وأما حليته -عليه السلام- فإنه معتدل القامة، أسمر اللون، مقرون الحاجب، عظيم اللحية، أشعر الذراعين، مسيح البطن، قوي الحركة، كثير التبسم، رفيق بالأصحاب، رحيم بالضعفاء، حسن الخلق والسمت، إذا قعد في العلماء كان لسانهم الناطقة، وكلمتهم المارقة، داخل في أهل الدنيا لمعرفته لأحوالهم، خارج عنهم وعنها لاعتزالها ولاعتزالهم:
تجاوز حد المدح حتى كأنه .... بأحسن ما يثنى عليه يعاب
وأما خصائصه فكأنه في جميع أحواله وأوقاته كالعبد الذليل بين يدي مالكه الجليل، عليه السكينة والوقار، لا يفتر لسانه عن ذكر الله، حتى إنه إذا تحدث مع خاص أو عام يحرك شفتيه بعد ذلك بذكر الله سبحانه، وغير ذلك مما يطول تعداده، ويعسر ايراده، ومن ذلك ما جعله الله سبحانه عليه من الوقار والمهابة، ويجري في مقامه الكريم اللغط والخصام والضنك والزحام، مع أجناس العوام لما هو عليه من الغي في الكلام، فقد يتكلم بعضهم بما يظهر منه الخطأ في الكلام، في حق الله جل وعلى[5/ب] وحق الإمام، فيتأذى من ذلك من بحضرته من العلماء الأعلام، وربما يظهر منهم الاستنكار، وقد يضحك بعضهم لذلك وهو -عليه السلام- على أتم صفة الوقار، وأعلى منزلة في النظر والاستبصار، وتعداد ذلك يطول، ولا يقدر الحاكي لجلاله وشريف خلاله غاية المقول.
صفحة ١١١
[علمه]
وأما علمه -عليه السلام- فالمشهور من غير نزاع، وأن ذكره ملأ الرقاع والبقاع، فصار كما قال بعض أصحاب والده -عليه السلام- وقد ذكر علم أخيه مولانا أمير المؤمنين المؤيد بالله -عليه السلام-:
وعن علمه فاسأل إذا كنت جاهلا .... تنبئك عنه كتبه والرسائل
صفحة ١١٢
[مؤلفات الإمام المتوكل على الله إسماعيل]
ومن مصنفاته النافعة ما ظهر واشتهر، منها ما قاله القاضي العلامة شمس الدين أحمد بن صالح بن أبي الرجال -أسعده الله- فاكتفينا بما ذكره -أيده الله تعالى- فقال: منها (العقيدة الصحيحة في علم الاعتقاد من غرر الكتب كل ما تضمنه مقتبس من كتاب الله تعالى ونحا ذلك النحو ليكون الخلاف بين المنازع له وبين ربه، فإنه ما حكى منه عقيدة في الغالب إلا بلفظ الذكر الحكيم، وشرحها بشرح مفيد من أعجب الكتب، وابتكر فيه أدلة في بعض المواضع مما ألهمه الله قاطعة للخصم، قرأت عليه مرارا في مواقف حافلة يحضرها الخصوم، ويتكلمون بما عرض وشرحها جماعة، منهم الفقيه الفاضل صالح بن داود الآنسي وبعض أهل الاحساء، وبعض المصريين، وهو الشيخ حجازي، وبعض قضاة الفقهاء الشفعوية ، واشتهرت في الأقطار في أسرع وقت.
ومن مصنفاته (المسايل المرتضاة إلى جميع القضاة) فيه ما يعتمدونه في الأحكام، وفيها آداب أيضا لهم.
وله حاشية لم تكمل على منهاج الإمام المهدي -عليه السلام- في علم الأصول ، وله من الرسائل ما يضيق بذكره الكاغد مع أنه في غاية الإتقان، من ذلك رسائله في الطلاق الثلاث متكررة مكرسة نقل فيها من وافق أهل البيت من فقهاء المذاهب الأربعة، وأبسطها الموجهة إلى القاضي عبدالقادر المحيرسي ، ومنها رسالة في المحايرة مبسوطة، ورسالة في ابطال الدور، ورسالة في الخلع إذا كان العوض من الغير، ورسائل على كلمات من الحديث، وقواعد معرفة في أصول الفقه، ورسائل مبسوطة فيما يؤخذ من الجبايات، وفي إهدار ما وقع من أيام البغاة مكرسة أيضا.
صفحة ١١٣