فهم سيرحلون ويتركونني من جديد،
للحياة والموت!»
ودق الجرس ودخل صخر، وكان قد حلق شاربه ومشط شعره وحمل كل صحف الصباح تحت إبطه، ودق الجرس مرة أخرى ودخل شاب أنيق، وقالت له السيدة مشيرة إلى صخر: هذا صديق زوجي. وقال الشاب: أعرفه. وقام صخر على الفور ولبس نظارته، وجعل يتمشى في الحجرة، وكانت هناك بعض الكتب بالإنجليزية والفرنسية على الرف فجعل يقلب فيها ثم وضع يده في خاصرته، وحمل كتابا منها إلى النافذة ففتحه، وجعل يقلب في صفحاته وهو ينظر للشاب الأنيق من فوق نظارته بين اللحظة والأخرى. «لا بد أنها كانت من أسعد لحظاته؛ إذ يشعر أن ثمة شخصا يعرفه لسبب ما؛ ففيما مضى كان يعتقد أن الجميع يعرفونه ثم اكتشف الحقيقة تدريجيا. وعندما رأيته لأول مرة كان عاري الصدر يمشي بخطوات بطيئة ويرفع إصبعه كل لحظة ليداعب شاربه. وفي تلك الأيام كان الزعماء يحتفظون بشوارب مختلفة الأشكال، ولم تكن صدفة أن كل واحد منهم كان له شارب متميز عن الآخر، ثم اكتشف أن هذه الشوارب كانت خداعة؛ فقد ذهب أصحابها وذهبت موداتها، ولم يبق شيء في القلب، ولم يكن قد امتلأ مرة. وفي الباب الحديدي جعل يضرب رأسه حتى كاد ينشق، وكان يبكي.»
ومن النافذة رأيت فتاة في المنزل المقابل تحتضن فتاة أخرى وتقبلها في شفتيها. ودخلت فتاة عوراء وبكت، وأخذ صخر يمسح على شعرها بيده وهي تبكي. وقالت السيدة إن الفتاة هكذا، ما إن ترى رجلا حتى تبكي. وعادت منى أخيرا من المدرسة، وقلت لها: أنا صديق بابا. فنظرت إلي في عداء، وأخذتها إلى النادي، وكان هناك أطفال آخرون، وقلت لهم أن ينزلوا معها إلى المياه لأني لا أعرف السباحة. وأخذوها ونزلوا، وجعلت تجري وتلعب وهي سعيدة، وكان هناك خشبة تساعد على العوم، فتعلقت بها. لكن طفلة أخرى سمينة جذبت منها الخشبة لتعوم فوقها. وتشبثت منى بالخشبة، وأمسكتها الطفلة السمينة من شعرها وجذبتها في عنف لتبعدها عن الخشبة، وأخذت الخشبة ونامت فوقها. كانت منى الآن بعيدة عن حافة الحوض، وأسرعت أجري ناحيتها على الأرض، كانت ترتفع وتهبط في الماء وهي تلهث في قوة، وقد اتسعت عيناها في رعب، وناديت عليها. لكنها هبطت تحت الماء ولم تظهر ثانية، وأسرع أحد السباحين إلى نجدتها وجذبها إلى أعلى، وحملها إلي، وأخذتها إلى بيتها، وقالت لي ونحن نصعد السلم: عندما يكون هناك أحد سأقول إنك أبي فلا تقل لا. ودخلنا المنزل، كانت أمها ترتدي ملابسها فانتظرتها، ثم وقعت عيني على ساعة الحائط فقفزت واقفا، وأسرعت إلى الباب وقفزت إلى الشارع. لم يكن هناك وقت على موعد مجيء العسكري، ووصلت حجرتي وأنا ألهث، ووجدت خطابا ينتظرني، وبحثت عن اسم المرسل فوجدته من نجوى. قرأت الخطاب في بطء، ثم أشعلت سيجارة وتمددت على السرير، وقرأت الخطاب من جديد، كانت تتساءل عما إذا كنا سنلتقي من جديد بعد كل هذه السنين. وأغمضت عيني على ما أمكنني استرجاعه من صورتها؛ عينيها الحانيتين وفمها الممتلئ. ودق الجرس فقمت أفتح، كان العسكري، واستمهلته حتى عدت إلى الحجرة، فأحضرت الدفتر وأعطيته له، فوقع اسمه، وانصرف، واحتفظت بالدفتر في جيبي إلى حين عودته. ودق الجرس ثانية، وعندما فتحت الباب وجدت نجوى أمامي، احتضنتها وضمتني هي بعنف وألصقت جسمها كله بجسمي. لكني لم ألتصق بها، وأبعدتها عني، وجعلت أتأملها، ثم اقتدتها إلى الحجرة وأطفأت النور، وجلست على السرير وأجلستها بجواري، ثم جذبتها ناحيتي وقبلتها في شفتيها. أبعدت وجهها وقالت: احك لي. لم تكن عندي رغبة في الحديث، ومررت بيدي على وجهها، ووضعت يدي على فمها، وجذبت رأسها إلي وقبلتها، وأمسكت بشفتيها بين شفتي، وعضتني هي بنفس الطريقة الفجة غير المدربة ثم ابتعدت عني. «هذا ما كان يحدث دائما، في أول مرة قبلتها كانت خجلى، وكنت أجلس بجوارها والضوء يسقط على خدها. وتوقفنا عن الكلام وأسندت رأسي إلى كتفها ولم تعترض، وقبلتها في خدها، ثم شفتيها، وعندما تشجعنا قليلا، أمسكت بشفتي التحتية وعضتها بقسوة . كنت أريد أن أحس بشفتيها ناعمة في فمي، ولم أكن أشبع منها، ولو استطعت أن أظل محتضنا إياها طول اليوم لفعلت. كانت هناك سخونة في وجهها وفي ساقيها، وعقب كل مرة كنت أجعلها تقف عارية وأتأمل ساقيها، كانا ينسابان في جمال ونعومة وسمرة. وكنت أطلب منها أن تعري ساعديها لأقبلهما وأحسهما على جسدي، لكنها كانت تتردد، وفي الظلام كنا نرقد، ونلصق ببعض في عنف لننسى العالم وكل شيء ولا نعود نفكر في أي شيء أو نخاف من أي شيء. وعندما يكون خدي لصق خدها وأنفانا متلامسين ورأسانا متجاورين وعيوننا تحدق إلى نفس المكان من السقف، لا تصبح هناك أهمية لأي شيء. وفي اللحظة التالية يتحرك رأسي وتزحف شفتاي إلى شفتيها، ونتبادل القبل، أحيانا في رقة وأحيانا في عنف، ثم تبتعد برأسها وتتنهد. وفي أول مرة احتضنتني في عنف وقالت: أين كنت من زمان؟ وفي المرة الثانية قالت: يا حبيبي. وظللت صامتا والكلمة تتردد في أذني للمرة الأولى في حياتي وأنا لا أصدق نفسي، لكنها سرعان ما كانت تستدير وتقول: أريد أن أنام. وأظل راقدا على ظهري، وعيناي على السقف بمفردهما، وأتمنى أن تستدير فجأة وتحتضنني، لكني لا ألبث أن أشعر بتنفسها المنتظم، تنفس النائم الراضي القانع. وأستدير برأسي وأهب قليلا لأراها، وقد أحنت رأسها إلى أسفل وأسندته إلى ساعدها وراحت في النوم وقد تناثر شعرها حول عنقها وتمدد ساعدها الآخر فوق جانبها، وأمر ببصري على جسدها كله ثم أعود إلى مكاني.»
تمددت بجواري وأسندت خدها إلى يدها، وأعطتني وجهها الذي أضاءه جانب من ضوء القمر، قالت: سأحكي لك أنا. تكلمت كثيرا ثم سكتت، وقلت لها إني متعب، وإني كنت أتشوق لها دائما. وجذبتها ناحيتي، لكنها ابتعدت، وطلبت منها أن تعري ساعديها، قبلت ساعدها وكتفها في ضوء القمر، لكنها ما لبثت أن قالت: الدنيا برد. وغطتهما، ثم تمددت على ظهرها، ولا بد أنها كانت تفكر في نفس الشيء الذي أفكر فيه. هناك شيء ما ضاع وانكسر، وقالت: أريد أن أنام. وجذبتها ناحيتي وقبلتها، وطفت بشفتي على خدها حتى أذنها فقبلتها وسكنت هناك حتى ارتعشت، ورفعت عينيها إلي وابتسمت وقالت : وهذه أيضا، من أين تعلمتها؟ «كيف ظلت تذكر وأنا قد نسيت؟ عندما صعدت بشفتي على ساقها، وقبلتها هناك لأول مرة، ونظرت لي بمزيج من السرور والدهشة والخجل، وقالت: من أين تعلمت هذا؟»
مددت يدي إلى صدرها، لكنها أبعدت يدي، وقالت: لا. وتركتها، وتمددت بجوارها، وانتظرت أن تستدير فجأة وتحتضنني، لكنها لم تفعل. وظللت مستيقظا، ثم شعرت بألم بين ساقي، فقمت إلى الحمام، وتخلصت من رغبتي، وعدت فتمددت إلى جوارها، ونمت واستيقظت، ونمت مرة أخرى. وعندما فتحت عيني في الصباح وجدتها قد ارتدت ملابسها، وقالت سأخرج الآن. قلت: متى سأراك؟ قالت: سأمر عليك. وظللت ممددا فوق الفراش، ثم قمت أخيرا فاغتسلت، وجمعت ملابسي القذرة، ووضعتها في إناء من الماء بعد أن أضفت إليه مسحوق الصابون، وحركته حتى كون رغوة كبيرة. وجاءت أختي وخطيبها، وارتديت ملابسي وخرجنا، وابتعت صحف الصباح. وفي مدخل المنزل التقينا بصديقة أختي وخالها، وذهبنا إلى الكازينو. وقال خطيب أختي: نريد أن نفرح بك. وقلت له: هذه المسائل تستغرق وقتا. وقال: لماذا؟ قلت: الحب ليس سهلا. هز كتفه وقال: اسمع نصيحتي؛ الحب يأتي بعد الزواج. وقال الخال: لقد تزوجت خمس مرات. وتركتهم وذهبت إلى سامي في بيته، وأدخلوني إلى حجرة الصالون، وانتظرته طويلا. ودخلت الحجرة طفلة أدركت أنها ابنته، ووقفت بجانبي. وكنت متعبا وأريد أن أذهب إلى دورة المياه، وأطلقت من ظهري رائحة شمتها الطفلة، وقالت: رائحة كاكا. وتجاهلت الأمر. لكنها عادت تردد: رائحة كاكا. فجعلت أتشمم حولي وأقول لها أين؟! حتى اختفت الرائحة. وأخيرا يئست من مجيء سامي فقمت وانصرفت. وكان الزحام شديدا، وذهبت إلى المجلة فلم أجد أحدا. وفي الشارع كان الراديو عاليا، وسمعت أغنية إنجليزية عن الأطفال، واكتشفت أنها نفس الأغنية الجديدة التي يغنيها محمد فوزي. وركبت المترو، وكان الزحام فظيعا وكدت أختنق، وراقبت وجوه السيدات المتعبة وقد ساح الكحل عليها. وذهبت إلى بيت سامية، ووجدتهم يأكلون. ابتسمت سامية عندما رأتني وقالت إنها انتظرتني طويلا قبل أن تأكل، وكدت أسألها: صحيح؟ وسألتها عن طفلها فقالت إنه نائم. وشعرت بنفسي أبتسم، وكانت ابتسامتها بسيطة صريحة، ولم أكن أتصورها بهذه البساطة والرقة. «ماذا بعد؟ عندها زوجها وطفلها ولا مكان لأحد آخر في حياتها وسرعان ما سأنصرف، وسيكون هذا هو نهاية كل شيء.»
وكانت تتنهد بين الحين والآخر تنهيدة حارة وتقول: يا رب. وقلت لها: لو سمعك فرويد لقال لك شيئا. فقالت: بل أشياء. وفرغنا من الأكل وقامت، كانت ترتدي قميصا خفيفا على اللحم، ورأيت من تحت إبطها جانبا من ثديها عند انطلاقه من الصدر، ودهشت لأنه لم يكن متهدلا، وكان أبيض كاللبن. وأدرت بصري بسرعة، وتطلعت إلى عينيها الصريحتين المباشرتين، ودخلت هي لتنام، ونمت أنا أيضا.
وعندما قمت بحثت عنها وذهبت إلى غرفتها، وكان السرير في أقصى الغرفة. وكانت ترقد على ظهرها ومؤخرة رأسها ناحيتي وعيناها على الحائط المواجه لي، وطفلها جالس إلى جانب صدرها يتطلع حوله مدهوشا من أثر النوم. وكانت ساقها عارية - بيضاء كاللبن - وغطتها بسرعة، وقامت وارتدت فستانا برتقاليا، وجلسنا في الشرفة، وقالت لي إن طفلها يحبني. عشقت صوتها الهادئ الواثق وحركاتها التي لا تتكلف شيئا، وقلت لها إني أشعر أني عجوز. نادرا ما أبتسم أو أضحك. كل الناس أراهم في الشارع وفي المترو متجهمين دون ابتسام، ولأي شيء نفرح؟ وتكلمنا عن الكتب، وقالت إنها كفت عن القراءة منذ مدة، منذ أن جاء الطفل. وسألتها: هل قرأت رواية الطاعون؟ وشعرت أن شيئا كثيرا يتوقف على الإجابة، لكنها قالت: لا. وفكرت أن أقول لها إني أحسدها على بساطتها ورقتها. وقلت أفعل هذا عندما نفترق. وتطلعت إلى الساعة، كان لا بد أن أذهب. ووقفت هي أيضا، قلت لها في صوت خافت: تعرفين؟ أنت غريبة حقا. وتطلعت إلي بدهشة، قلت: لقد اكتشفتك اليوم. وانحنت على طفلها وانهمكت في إصلاح ملابسه، ولم أر عينيها جيدا. وجاء زوجها، وودعتهما، وسارا في أثري إلى السلم. وعند باب الحديقة تطلعت خلفي، كانت تدخل المنزل الهادئ الرطب، وراقبت رداءها البرتقالي وهو يختفي خلف الباب. ومشيت إلى البيت، ورأيت فتاة حلوة تسير بجوار قضبان المترو في بطء كأنما تجد صعوبة ما مع حذائها. ودخلت المنزل، ووجدت الغرفة الخشبية في مدخله مضاءة وبابها مفتوحا، واختلست النظر داخلها فوجدت حسنية صديقة أختي. وصعدت إلى غرفتي، وجاءت أختي، قلت لها: سامية لطيفة. وسألتها: هل هي سعيدة مع زوجها؟ قالت: أجل. وقلت: أراهن أنها لا تحبه. قالت: مستحيل، أين ستجد رجلا مثله في الشخصية والمركز؟ وقالت إنهما كانا يتقابلان قبل الزواج. «وماذا لو كانا يتقابلان قبل الزواج .. كانت في السابعة والعشرين، وانتظرت فارس الأمل طويلا دون جدوى .. وفي البيت لم تكن لها حجرة خاصة، كانت تنام في غرفة أشبه بالصالة. لم تغلق على نفسها باب غرفتها أبدا، وتنفرد بنفسها، وتخلع كل ملابسها مثلا. لم تقبل جسمها أمام المرآة، ولم يعد من الممكن أن تحتمل نظرات أبيها وأمها كل ليلة. لم يكن هناك من موضوع للحديث غير الزوج المنتظر، وتلام لأنها لم تستطع أن تحصل لنفسها على واحد. وذات ليلة التقت به عند إحدى صديقاتها، وفي اليوم التالي قالت لها صديقتها إنه يريد أن يتزوجها. وبعد عشر دقائق من المسير حتى باب المنزل، وأمام باب المسكن الذي تآكل طلاؤه، قالت لصديقتها: ولم لا؟ ربما كان الحبيب الذي تنتظره، ربما لم يكن كل هذا الحديث عن الحب والتقاء الأعين ورعشة الأرواح غير كلام روايات، ربما وجدت السعادة معه؛ ربما الكلمة المعلقة فوق كل زواج جديد، ربما كان هذا هو الرجل المنتظر، ربما جاء الحب، وبعد سنة واحدة جاء الطفل. ها قد تم تقييدها إلى الأبد، وليس أمامها إلا الاستسلام .. وتلك المرة التي كان الراديو دائرا فيها ولمحت نظرة ساهمة في عينيها، وقد اكتسى وجهها طابعا حزينا .. ماذا حدث بعد الزواج؟ وتصورتهما بجوار بعضهما على الفراش، وأحدهما ملول ساخط، أحدهما سيظل طول عمره يشعر أن جانبا فيه لم يتحرك، أن جزءا من لحمه ودمه لم يهتز، أن بئرا في أعماقه لم تكتشف.»
قلت : هل تعرفين ما هو الحب؟ وتطلعت إلي بدهشة. كان سؤالي سخيفا وساذجا، قالت: بالطبع. وقلت: هل تحبين خطيبك ؟ قالت: أجل. وقالت: عندما خطبني لم أكن أطيقه ثم مع الزمن أحببته. وكان صوتها مرتفعا، قلت لها: لماذا تزعقين؟ قالت: صوتي كده. وقالت إنها تريد أن تستحم، ولكنها لو فعلت سيتلف شعرها وتضطر للذهاب إلى الحلاق مرة أخرى. ودق الجرس، فحملت الدفتر وذهبت أفتح، لكنه كان خطيب أختي، وخلفه جاءت صديقته حسنية، وقالت حسنية لأختي: تصوري أن خطيبي يغير من خالي! وقالت: إنه يقول إني أقضي الوقت كله مع خالي. وقال خطيب أختي إنه كان يبحث طول اليوم عن السخان، وإنه اشترى الثلاجة. وقال: هل يعرف أحدكم شخصا مسافرا ليأتي لي بريكوردر؟ وجاء خال حسنية وأخذهم جميعا إلى السينما. وبقيت بمفردي أمام المكتب، وحاولت أن أكتب، ودق الجرس، فأسرعت إلى الباب وأنا أتمنى أن يحدث شيء، أن يأتي أي أحد، ووجدت الكواء. ودق الجرس مرة أخرى، وعندما فتحت الباب فوجئت بنهاد وأبيها، ودخلا حجرتي على الفور، وقالا: لا بد أن تأتي عندنا غدا. وقلت لنهاد: لقد تغيرت كثيرا. فقالت باسمة في رقة: آخر مرة رأيتني فيها كنت صغيرة جدا. ورفضا أن يجلسا وقالا إن أمها تنتظر في السيارة. وودعتهما إلى الخارج ثم عدت إلى حجرتي، وأخذت أدخن في شراهة وأنا أفكر ولا أستطيع الكتابة. كانت تتأملني بدقة، وفكرت أنها سمعت عني كثيرا ولا بد أنها مبهورة. ودق الجرس مرة ثالثة، وكانت الدقة طويلة قوية، وحملت الدفتر وذهبت إلى الباب ففتحته، وأعطيت الدفتر للعسكري ثم عدت إلى حجرتي وأطفأت النور واستلقيت على الفراش، ورحت في النوم، ثم استيقظت فجأة على صوت الجرس. وعندما فتحت الباب لم أجد أحدا، وعدت إلى الحجرة وتركت بابها مفتوحا، ونمت من جديد. وقمت في الصباح الباكر وحلقت ذقني وارتديت ملابسي وحملت قميصا نظيفا إلى الكواء، وعدت فارتديته ثم نزلت. وأخذت أبحث عن مكان ألمع فيه الحذاء، واشتريت الصحف. وأخيرا ركبت المترو، وتوقف السائق في الطريق ليضع قطعة أفيون في فمه ويشرب الشاي. وفكرت أنه محظوظ؛ فقد وجد طريقة يستعين بها على مواجهة الحياة. ومضى يسوق في بطء وأنا أتمنى أن يسرع كي لا أتأخر ويفسد الغبار أناقتي. ونزلت بعيدا عن البيت، وركبت تاكسي، وتوقفت به أمام البيت، وتطلعت إلى شرفاته فلم أجد أحدا بها. وصعدت إلى الطابق الأعلى ووجدت نهاد مع أمها أمام مائدة، ولم تشاهدا التاكسي، وجلست بجوارهما. كانت نهاد تذاكر، وتأملتها في دقة، كانت شفتاها كما أتمنى؛ السفلى مقوسة وأسنانها بارزة قليلا، وكان صوتها هادئا رقيقا. وسألتني أمها عما أفعل الآن، وكانت تتكلم بصوت عال، قلت لها إني أكتب. قالت: هل تكتب قصصا؟ قلت نعم. قالت: من الكتب؟ قلت: لا، من رأسي. وقالت نهاد: إذن أنت شخصية. وأشعلت سيجارة، وقالت أمها: يجب أن تستقر. وقالت نهاد: أمريكا رائعة، ما رأيك؟ وقلت: أعجب بأشياء وأشياء لا. وقالت: اترك كل هذا والتفت لنفسك. وقالت: ساعدني في المذاكرة، وكان صوتها خافتا، وأنا قد تعبت من الأصوات العالية. وقالت: تصور ماذا فعلوا بأبي. طردوه من شركته بعد أن أخذوها. وقالت إنهم تآمروا عليه واتهموه بأنه يتلاعب. وقالوا: نأكل. ونزلنا إلى الطابق الأسفل، وجلسنا إلى المائدة، وأخذت السلطة ثم الأرز في طبقي. وسألتني نهاد: ورك أم صدر؟ وكانت أختي قد حذرتني، وقالت حذار أن تأخذ الورك لأنك لن تعرف كيف تأكله بالشوكة والسكين. لكني لم أدر كيف اندفعت وقلت لها أعطيني الورك. ووضعته أمامي وأمسكت بالشوكة والسكين، وعندما غرزت فيه الشوكة قفز من صحني في الهواء وسقط في إناء السلطة. وقالت نهاد بهدوء: الفراخ لا تؤكل هكذا، كلها بيديك. وقلت لها إن أختي حذرتني لكني لم أستمع إلى تحذيرها. وقالت الأم إنهم في أوروبا يأكلون الورك بالشوكة والسكين. ولم أعرف كيف آكل بعد ذلك، وتعثرت في المكرونة والبطيخ. وقالوا: أتعجبك الحال؟ وقال الأب إنه قابل ناسا قادمين من روسيا وإن الفقر هناك شديد. وقال إن الرأسمالية أفضل. وقالت نهاد في حماس: هل يستطيع أحد أن يجادل في هذا؟ وقالت: هل تؤمن بربنا؟ وقمت وغسلت يدي وجففتها في فوطة. وصعدنا إلى الطابق الأعلى، وقدموا لي السجائر، لكن لم تكن لدي رغبة في التدخين. وتحدث الأب في التليفون، كان يريد أن يشتري الأرض المجاورة، ووضعت الأم يدها على خدها وسرحت، ودخل الأب لينام. وقالت نهاد: هل أنت متعب؟ قلت: لا. وعدنا نستأنف المذاكرة، وقام الأب من النوم وجاء فبسط سجادة الصلاة أمامنا وصلى، ثم جلس بجوارنا وجاءوا بالشاي، وقال: كيف حال نهاد؟ قلت: كويس. وأداروا التليفزيون خلفنا بصوت عال، وجاءت الخادمة والطباخة والدادة وجلسن على الأرض يتفرجن، وكانت نهاد تغافلني وتتابع الفيلم. وقالت: أحمد رمزي لذيذ. وبدأت أشعر بالتعب، وقامت وجلست بجواري، وكان ساعدها عاريا بجواري، وكانت حريصة على ألا نتلامس. وسمعتني الأم أشرح لها كلمة إنجليزية، فقالت: لا، ليس هذا هو المعنى. وتدخل الأب ولم يكن يعرف غير الفرنسية، وقال إن الكلمة بالفرنسية لها معنى آخر. ولم أتكلم. واختلف الأب والأم، وطلبت مني الأم تأييدها، وقلت: غالبا هذا هو المعنى. وقال الأب: لا. ونظر إلي، فقلت: تقريبا. وأصبحت الضوضاء عنيفة. وقالت نهاد إن مخرجا رآها في الصباح وقال إنها تشبه لبنى عبد العزيز. ودخل بعض الزائرين، وقامت نهاد ترحب بهم وجلست بجوارهم في نهاية الغرفة. وكانت تحادثهم في حرارة وشوق ثم تغافلهم لتتابع أحمد رمزي. وأحسست بالصداع يحطم رأسي، وقمت لأنصرف، ونظرت إلي إحدى الزائرات متسائلة، وقلت: أنا ابن فلان. وضحكت وأشارت إلى أنفها وبرمت شاربا وهميا ورفعته إلى أعلى، وقالت: أهو ذلك الذي كان بشارب ضخم؟ قلت: نعم. وصاحت الأم: أنا عاوزاك. وفكرت: هل ستنحني علي وتعطيني خمسة جنيهات؟ وأشارت لي أن أتبعها إلى حجرتها، وكانت وصيفتها تجلس على مقعد، وهي فتاة سمراء ممتلئة، وقلت: هذه طبقتي. وفكرت أني لو كلمت الأم لأمكن أن أتزوج هذه الفتاة، وسيقولون إنهم خدموني ووجدوا لي زوجة طيبة على قدي. وناولتني الأم لفافة ورق وقالت إنها قطعة قماش. ولم أعرف ماذا أقول. وكنت قررت أن أرفض لو أعطتني نقودا، ولم أحسب حساب القماش. وتضايقت ورفضت ، لكنها أصرت وقالت: أنت مثل ابني. ولم أعرف كيف أتصرف، فأخذتها وأنا أقول في نفسي: ها نحن قد كسبنا بذلة. وعدت إلى الصالة، ورافقتني نهاد إلى السلم. وخرجت من البيت، ولم أنظر إلى أعلى، ومشيت، وامتلأ حذائي بالغبار ولم أهتم. وركبت المترو، وكان الزحام رهيبا، وتكرمشت ملابسي، ولم أقاوم. وفي إحدى المحطات هجم على المترو عشرات من العمال العائدين إلى منازلهم، وشقوا طريقهم بين الزحام، ووقف أحدهم أمامي، وكانت عيناه محمرتين، واستند آخر على مسند مقعد، وسرح من النافذة، وبدأ ينام. وعندما تطلعت إليه بعد لحظة كان رأسه يهتز مع حركة المترو ويصطدم بالمسند كل مرة وهو غارق في النوم. وعندما نزلت من المترو شاهدت نفس الفتاة التي رأيتها من قبل تسير بجوار قضيب المترو في بطء. وصعدت إلى حجرتي، ووضعت المفتاح في القفل، نفس الباب والمفتاح في نفس الأسر التي من طبقتنا. ودخلت وخلعت ملابسي ووضعت البنطلون في الشماعة وعلقتها على الحائط، ثم استحممت، وعدت فجلست أمام المكتب، وأدرت الترانزستور. ورأيت لفافة القماش أمامي ففتحتها، ووجدتها قماش بيجامة لا بذلة، وأشعلت سيجارة. وجاءت أختي وقالت: كم بقي من الخمسين قرشا؟ حسبت المواصلات ولم أجسر على أن أذكر لها القروش العشرة أجرة التاكسي. وجاء خطيبها وقال إنه وقف ساعتين أمام الجمعية ليشتري اللحم. وقال إن الحالة لا تطاق. وقال: أنتم تريدون أن تنشروا الفقر. وقال: ليست أمامي فرصة للثراء. لو كونت أي شيء ستأخذه الحكومة. وجاء عادل وزوجته، وقدمت له سيجارة فقال: أنا لا أدخن ولا أشرب القهوة. وقال إنه في الصباح فقط يتناول فنجانا من الشاي في البيت، ومع ذلك يصل حسابه في المكتب إلى ثلاثين قرشا طلبات للآخرين. وقال إنه بعكس الموظفين الآخرين لا يرتشي. وقالت زوجته: خيبة. وقالت: إن العمال لم يعد أحد يعرف كيف يكلمهم، وقال عادل إن سائق خاله فهمي بيه لا يستيقظ قبل العاشرة صباحا، بينما يقوم فهمي بيه من الفجر. وقال لخطيب أختي: سأدلك على أحسن مكان تشتري منه صبانة. وقال خطيبها إنه أوصى على ولاعة رونسون ستأتيه من بيروت. وقالوا: لا بد أن نذهب الآن. وانصرفوا، وظللت جالسا أمام المكتب أدخن، ثم قمت وأطفأت النور، ووقفت في النافذة أتشمم الهواء. وكانت نافذتي تطل على مؤخرات عدة منازل، ولم يكن يبدو لي من الشارع غير جانب صغير. وملت برأسي إلى الخارج، ولويت رقبتي لأرى المحلات المضاءة والناس وهي تروح وتجيء. وتعبت فتراجعت برأسي إلى الوراء، وأسندت ساعدي إلى حافة النافذة. وكانت هناك نافذة مظلمة أمامي، وإذا بها تضاء فجأة، ومن خلالها ظهرت فتاة جعلت تخلع ملابسها ببطء، ووقفت أخيرا عارية تماما، ثم ارتمت على سرير في ركن الغرفة، ورقدت على وجهها وظهرها للضوء، ورأيت استدارة جسمها والظلال الداكنة التي تركها الضوء في ثناياه. وفجأة دق الجرس، فتناولت الدفتر وتلكأت قليلا حتى أشعلت سيجارة وأخذت علبة السجائر معي، ودق الجرس مرة أخرى، وأسرعت إلى الباب، وفتحت للعسكري وأعطيته الدفتر وأنا أخرج علبة السجائر، وأعطيته سيجارة، وانصرف. وعدت إلى الحجرة فألقيت الدفتر على المكتب وتطلعت إلى النافذة المقابلة فألفيتها مظلمة. استلقيت على الفراش أدخن حتى انتهت السيجارة، فقذفت بها من النافذة ونمت. وفي الصباح خرجت واشتريت الجرنال وزجاجة لبن صغيرة وخبزا. وعدت فغليت اللبن ووضعت فيه السكر ثم غمست الخبز في اللبن. وقرأت الجرنال، ثم خرجت، وركبت المترو، وتوقف المترو قبل محطة الإسعاف، ونزل الركاب، ووجدت عرباته مقلوبة على جانبها بجوار القضبان، وقد برزت أحشاؤها الداخلية السوداء. وسرت إلى المقهى الذي يجلس فيه مجدي، وكان يجلس في ركن بمفرده، وقال: يجب أن نثبت وجودنا. وتأملت التجاعيد التي حفرت خطوطها في كل مكان بوجهه، وقال: الجميع أولاد كلاب. وقال: أنت قوي بالناس، أما بمفردك فأنت ضعيف. وتقلصت عضلات وجهه. «فإذا نظرت إليه لا تعرف ما إذا كان يحقد أم يتألم، وهل يوجد إنسان لا يحقد ولا يتألم؟ من الرغبة في السيطرة ومن الضعف في مواجهة العالم، من الافتقاد للحب ومن العجز عنه، من احتقار الناس ومن الحاجة إليهم، من الإحساس بالقهر ومن ممارسة الاضطهاد، من معاناة الألم ومن الاستمتاع بإيلام الآخرين، من الثقة الكاملة ومن الشعور بالفشل، من التغني بحب الناس ومن استغلالهم كقطع من الطوب تبني بها بيتك، من الاعتقاد بأن الجميع يحبونك ويؤمنون بك، ومن رؤيتهم يتخلون عنك .. وكان الأمر في البداية نبلا وأصبح الآن لعنة، وجف النبع الذي كان يتألم للآخرين .. وعندما وقف وظهره يقطر دماء كان صامدا لا يهتز، يستعذب قدرته على الصمود. لكن الناس لم تعد تعبأ بهذا اليوم؛ فقد تغيرت روح العصر. وليس صدفة أن الكلمات التي يستخدمها قد تغير مدلولها منذ زمن، وبعضها كاد يصبح بلا مدلول على الإطلاق .. وكان مشتركا في اللعبة ويفهم قواعدها ويسير عليها، لكنهم طبقوا القواعد عليه، وسالت الدموع على مقعد وحيد، وأفظع شيء أن تبدأ في البحث عن نفسك متأخرا .. وقال إنه لم يحب أبدا. وهو يؤمن بأنه أفضل من الآخرين - وربما كان ولا يجد ما يمنع من ذلك وقد قدم كل شيء لديه - لكنه مهزوم في لعبة لا تعرف الرحمة وليس لها في الحقيقة أية قواعد، ولا يمكنك فيها أن تقرر الصح من الخطأ، وليس المنتصر هو المصيب بالضرورة، إنما هو أمهر وأمكر وأكثر حظا.»
تركته وذهبت إلى المجلة، وسرت في ممر طويل وأنا أنظر في كل غرفة ولا أجد أحدا، وكانت هناك غرفة أمامي في نهاية الممر، وعندما اقتربت منها رأيت امرأة تجلس إلى مكتب وقد أسندت خدها إلى يدها، ولمحت دموعا في عينيها، واستدرت عائدا من حيث جئت، وسرت في اتجاه المترو ثم ركبته، وجلست بجوار النافذة. وعندما تركنا ميدان رمسيس سار بجوارنا قطار في نفس الاتجاه، وكان ممتلئا بالجنود العائدين من اليمن، وكانوا يهللون من النوافذ ويهتفون ويلوحون بأيديهم. وعندما أصبح المترو في حذائهم، ازداد حماسهم وهم يتطلعون إلى ركابه، وتأملهم هؤلاء في جمود ولامبالاة. وشيئا فشيئا هبط حماس الجنود، وكان المترو قد سبق القطار الآن. وأدرت رأسي إلى الخلف، كانت أيدي الجنود تتدلى من نوافذ القطار، ولمحت أحدهم يرمي بغطاء رأسه إلى الأرض. ونزلت أمام البيت ورأيت الفتاة الجميلة التي تسير بجوار قضيب المترو كل يوم، واكتشفت أنها عرجاء. واشتريت طعاما وصعدت السلم، ووجدت باب الشقة مفتوحا وجاري فيها يصلح قفل باب غرفته. دخلت وأكلت، ثم دخنت ونمت، وقمت لأجد أختي قد جاءت. ودخلت الحمام وخلعت ملابسي وفتحت الدش على جسمي، وسمعت صوت مقبض باب يقع على البلاط. وأغلقت الدش وجففت جسمي وارتديت ملابسي ثم خرجت من الحمام. وكان هناك قرع مستمر على شيء ما، ووقفت أتكلم مع أختي وأنا أمشط شعري. وسمعت القرع مرة أخرى، وتبينت فيه قرعا على الجدار، وقلت لها إننا كنا نفعل هذا دائما عندما نريد أن نكلم بعضنا أو نحذر بعضنا. «وكان ذلك يحدث كل صبح، ونفتح عيوننا على صوت القرع الرتيب على الجدران ونهب واقفين ونحن نرتب كل شيء ونحاول أن نتذكر حتى لا ننسى شيئا، ولا زال النوم في عيوننا، ثم نجلس القرفصاء بجوار الحائط ونحن نرتجف من البرد. ويسكت القرع، وننتظر، ثم نسمع صوت أقدامهم على البلاط وشخشخة السلاسل والمفاتيح. ونقفز في أماكننا عندما يصطدم المفتاح بالقفل، ثم يدخلون، وتلتصق عيوننا بعيون جامدة لا تنطق، وتصطدم آذاننا بأصوات سريعة باترة لا تتمهل، وتتعلق قلوبنا بأيد سمينة ثقيلة لا تفكر، وحولنا الجدران تلتقي في أربعة أركان، والباب مغلق، والسقف قريب، لا منجاة.»
صفحة غير معروفة