4
أنى له هذا المرح الذي انتهى به إلى كل هذا الضجيج؟ حقا يا سير كنراد لقد كنت أظنك حتى الآن رجلا محبا للهو والطرب، حتى إني لأعجب كيف هجرت مكان القصف.»
وكان دي فو إذ ذاك قد وقف وراء الملك وقريبا منه، يسعى جهده - باللمحات والشارات - أن يشير إلى المركيز بألا يبوح لرتشارد بشيء مما كان يدور خارج السرادق، ولكن كنراد لم يفهم هذا التحذير، أو قل إنه لم يأبه له.
فقال: «إن ما يعمل الأرشدوق شيء قليل الجدوى لغيره، وأقل جدوى لنفسه، فهو لا يعرف ما هو صانع، وما هذا حقا إلا لعب لا أحب أن أساهم فيه ما دام الدوق يخلع لواء إنجلترا من فوق جبل سنت جورج وسط ذاك المخيم، وينشر رايته مكانه.»
فصاح الملك بصوت يكاد يوقظ من في القبور وقال: «ماذا تقول؟»
فقال المركيز: «كلا! لا يغضبن جلالتك أن رجلا أحمق يعمل ما يمليه عليه حمقه ...»
فقال رتشارد وقد هب من مرقده وانثنى على ثيابه بعجلة عجيبة: «لا تخاطبني يا سيدي المركيز! أي دي ملتن، إني آمرك ألا تنبس إلي ببنت شفة - من يلفظ كلمة واحدة فليس لرتشارد بلانتاجنت بصاحب أو صديق - ناشدتك الله أن تلزم الصمت أيها الحكيم!»
وفي تلك الأثناء كان الملك يرتدي ثيابه متعجلا، ولم يكد يلفظ الكلمة الأخيرة حتى انتزع حسامه من إحدى قوائم الفسطاط، وانطلق من السرادق وليس معه سلاح آخر، ولم يدع أحدا يتبعه. فرفع كنراد يديه كأنه ذاهل، وبدت عليه الرغبة في التحدث إلى دي فو ولكن السير توماس خلفه واندفع بشراسة، ثم نادى أحد رعاة الخيول الملكية، وقال له متلهفا متعجلا: «انطلق إلى بيت اللورد «سولزبري» واطلب إليه أن يجمع رجاله ويتبعني توا إلى جبل سنت جورج، قل له إن الحمى قد خرجت من دماء الملك، واستقرت في رأسه.»
وذعر الخادم الذي وجه إليه دي فو الخطاب بهذه اللهفة، فلم يستمع إلى كل حديثه، ولم يكد يفقه له قولا؛ وانطلق على إثر ذلك رئيس رعاة الخيل وزملاؤه من خدام البيت المالك وهرولوا إلى خيام النبلاء المجاورة، وسرعان ما نشروا الذعر بين الجنود البريطانيين كافة، وبقي الباعث غامضا لم يدر به أحد، فاستيقظ الجند الإنجليز وهبوا من قيلولتهم، التي علمتهم حرارة الجو أن يستغرقوا فيها كأنها لون من ألوان الترف، وأخذوا فيما بينهم يتساءلون: ما تلكم الجلبة، وما ذلك الشغب، وقبل أن يجابوا سؤلهم كفتهم قوى الخيال ما نقصهم من خبر، وقال بعضهم إن العرب قد حلوا بالمعسكر، وقال بعضهم حياة المليك مهددة، وقال بعضهم إنه هلك من الحمى في المساء السابق، وقالت كثرة منهم إن دوق النمسا قد اغتال حياته، وبات الأشراف والضباط - كغيرهم من عامة الرجال - في حيرة من حقيقة الباعث على هذا الاضطراب، فلم يعملوا إلا على أن يبقوا أتباعهم شاكي السلاح، مؤتمرين لذوي النفوذ والسلطان، خشية أن ينجم عن تهورهم شر مستطير يلحق بجيش الصليبيين ؛ ورن رنين الأبواق الإنجليزية، وجلجل صوتها دون انقطاع، وعلا صوت القوم مذعورين، وأخذوا ينادون: «قسيكم ورماحكم! قسيكم ورماحكم!» وسرى النداء من حي إلى حي، وأخذ يتردد مرة تلو الأخرى، فيجاب بالفوج إثر الفوج من المقاتلين المتأهبين، ودعواهم القومية: «سنت جورج لإنجلترا الطروبة!»
وسرى الذعر في أقرب الأحياء بالمعسكر، وتجمهرت زمرة من الرجال من الأمم المختلفة جميعا، وربما كان لكل قوم من أقوام العالم المسيحي من يمثلهم، ورفع الجميع السلاح متكاتفين في ظرف هذا المعمعان المضطرب الذي لم يعرفوا له باعثا أو مرمى؛ وكان من حسن الطالع وسط هذا المشهد المروع أن «الإيرل أف سولزبري» - وقد هرع بعد أن استدعاه دي فو في ثلة من خيار الرجال الإنجليز المدججين بالسلاح - قد سير بقية الجيش الإنجليزي، وأشار لهم أن يحتشدوا ويبقوا شاكي السلاح، كي يسيروا إلى نجدة رتشارد إن دعا إلى ذلك داع، وأن يتقدموا بنظام لائق، وألا يتحركوا إلا إن جاءهم أمر معتمد، وألا يسيروا بعجلة لجبة قد يجلبها عليهم ما يتملكهم من ذعر وما يدفع بهم من غيرة على سلامة المليك.
صفحة غير معروفة